الحيرة.. إرث الشباب
إن شباب هذا الزمان حائرون، كما كان الشباب من أزمان مضت حائرين. نعم.. إن ظروفهم قد تغيرت! ونعم.. إن أحوالهم قد تقلبت، فتبدلت مشاهداتهم وتصوراتهم، واختلفت أزياؤهم فأصبحت تتناسب مع عصريتهم. إلا أن الصورة التي حافظت على مقوماتها، وبقيت على حالها، وما زالت الأجيال تتوارثها، فهي تتمثل في – مشاعر الحيرة – لأنها القاسم المشترك الذي بقي قائماً بينهم، حتى لو اختلفت نكهاتها وتنوعت توابلها.
كثيرون سوف يحتارون حين يقرؤون ذلك الربط الوثيق بين حيرة شباب الأمس وبين حيرة شباب اليوم، وذلك بسبب الانفتاح الكبير لشباب اليوم على كل شيء، ومقدرتهم على التعايش معه، والتأقلم مع كل ما قدمته وتقدمه إليهم التكنولوجيا.
في القديم البعيد، وفي القديم القريب عانى الشباب من سطوة الأهل، ورهبة العادات والتقاليد، وارتدوا جلباب العيب والحرام، وتشرّبوا مشاعر الخوف إلى درجة كانوا يخشون فيها من أن يعبروا عن مشاعرهم حتى بينهم وبين أنفسهم، وذلك لأنهم كانوا مسيّرين لا مخيرين، فالكبير في البيت كان هو الحاكم الوحيد وصاحب الأمر والنهي ولا أحد ممن حوله يجرؤ على مخالفته حتى لو كان يرى ويعرف أنه على خطأ، مما أدّى إلى امتلاء نفوس أولئك الشباب بأسرارهم وأحلامهم الصامتة، فتحركوا في العتمة والخفاء، وذلك لأن التجارب محرمة، والتعبير عن المشاعر وصمة عار، والاختيار عقوق. فالضغط هنا كان أساساً للحيرة التي تملكت شباب الأمس، واستجلبت ضياع هويتهم النفسية والشخصية، على الرغم من النجاحات العلمية والعملية التي قد يكون سجلها الكثيرون منهم.
أما شباب اليوم، فقد تفتحت أمامهم أبواب الحياة وشُرّعت لهم نوافذ العالم، وعلى الرغم من ذلك فهم أكثر حيرة من شباب الأمس، لأن مساحة الحريّة المقدمة إليهم كانت أكبر وأوسع من طاقاتهم على استيعابها، الأمر الذي جعلهم يلجأون إلى أصدقائهم الذين قد يكونون أكثر ضياعاً واضطراباً منهم، وذلك لأنهم حين بحثوا عن الأب لم يجدوه، فقد تنازل عن دوره الأبويّ الإنساني وانشغل بأعماله وأمواله، فضلاً عن الأم الحاضرة الغائبة، التي تنازلت عن دورها الجوهري في صناعة المجتمعات وتأهيلها، رغبة منها في أن تعيش حياتها بالشكل الذي يُرضي طموحاتها العملية أو الاجتماعية، فالحرّية المشرّعة التي حصل عليها شباب اليوم حين ابتعدت عن مفهومها الإيجابي، كانت أساس حيرتهم وضياع هويتهم النفسية والشخصية.
وماذا يفعل شباب هذا الزمان في ظل كل هذا الانفتاح والحريّة المقدمة إليهم على أطباق التجارب المتاحة على مختلف أشكالها وأنواعها، وماذا يفعل الأهل كي يتمكنوا من حمايتهم وإرشادهم إلى الطريق الصحيح كي يكونوا بالدرجة الأولى متصالحين مع أنفسهم وبالتالي يتصالحون مع العالم من حولهم؟
إن العلامة اللافتة والمثيرة للقلق التي تظهر بجلاء على شباب اليوم هي انعدام الثقة لديهم بكل ما يجري من حولهم، وذلك بسبب مشاعر الكراهية والبغض والحقد والغيرة التي أصبحت السمة البارزة لهذا الزمان. أما انعدام الثقة على هذا الشكل فمن شأنه أن يزرع في دواخل الشباب ونفوسهم بذور الخوف وعدم الشعور بالأمان، مما يؤدي إلى اضطراب شخصياتهم، فتختلّ لديهم إمكانية اكتساب القدرة على التمييز بين من هم أهل لثقتهم، وبين من هم ليسوا أهلاً لها، وكل هذا من شأنه أن يقلل من فرص نجاحهم العملي والاجتماعي.
وكما هو معروف من أزمان بعيدة كانت أم قريبة، فإن الخير موجود والشر موجود، ولكن القدرة على التعامل مع هاتين الصورتين المتوازيتين، والتمييز بينهما، هي التي تؤهل النفس الإنسانية كي تحمي نفسها من الشرّ وتفيد من الخير. وقد تتمكن من تحويل الشر إلى خير من خلال الخير الذي تحمله في داخلها.
أما السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: كيف نستطيع أن نمسك العصا من النصف؟ في محاولة منا كي نُخرج هذا الجيل الشاب من حيرته وألمه وعذاباته، فضلاً عن انغلاقه الداخلي على الرغم من الانفتاح الخارجي الكبير الذي يحيط به ويتيح له كل شيء؟
وكي نجيب عن هذا التساؤل لا بد من البدء بالبيت.. من الأبوين حين يقومان بأدوارهما في الرعاية والمواكبة والمتابعة، فمن غير الممكن فرض قناعاتنا ورؤانا على شباب اليوم، مهما ظننا أنها صائبة، فلنَدَعهم يختارون، ثم نراقب خياراتهم وقراراتهم عن بُعد وعن قُرب، ونتوقف معهم عند محطاتهم، وإن لاحظنا أن هناك ما يدعو إلى الريبة، عندئذٍ نسعى إلى إنارة الطريق أمامهم، كي يروا ما يُريب بأعينهم، وليس بأعيننا، وذلك لأننا مهما جهدنا في أن نجعلهم يرونه من منظارنا، فسيبقى بالنسبة إليهم ضبابياً قاتماً. وذلك لأن الإنسان بطبعه قد يندم على أشياء لم يفعلها أو أُجبر على التخلي عنها، أو ربما يتمسك بها عناداً، مما قد يؤدي إلى قيامه بأمور ربما تكون فيها تعاسته وعواقبها عليه قد تكون وخيمة.
أما الصورة الاجتماعية الباهتة التي نقحم أنفسنا في إطارها، فلن تفيد ولن تنفع، فكلام الناس قد تكون له بداية، أما نهايته فحدودها الفضاء. فإن وضعنا في مخيلتنا ونصب أعيننا كمّ العقد النفسية التي تكمن في النفس البشرية الواحدة، فلن نتمكن من إحصائها، فكيف بنا في مواجهة العقد النفسية المتأصلة في الأفراد والجماعات، لذلك، وكي نضيء شمعة في طريق شباب هذا الزمان يجب أن لا نعوّل على ما يقوله الناس، وما يريده المجتمع، وما يراه الآخرون، فمهما جهدنا لن نرضيهم، وذلك لأن جلّ همومهم أن لا نكون راضين.
ومن أجل كل ما سبق، فلنمنح شباب اليوم مساحة الخيار والاكتشاف وأعيننا عليهم، فضلاً عن التسلح بتقنية الكرّ عند اللزوم وتقنية الفرّ في الوقت المناسب، فالأمر الأكثر أهمية بالنسبة إلينا، هو أن تكون أقدامهم على الأرض… وتبقى على الأرض! كي يتمكنوا من تعلم الدروس وأخذ العبر.
نعم.. إن أولادنا هم مسؤوليتنا ولكننا لا نمتلكهم، فهم ليسوا متاعنا، بل متعتنا حين نراهم يكبرون وهم يعرفون ماذا يريدون ويسيرون على هدى غير حائرون!! منى الشرافي تيم