مروان البرغوثي راوياً الألف يوم في السجن الإسرائيلي

         “إذا كان ثمن حرية شعبي هو فقداني لحريتي…فسأدفع هذا الثمن”

     إننا اليوم أمام كتاب فريد, حروفه حيّة تنبض صموداً وبسالة, حبرها الألم والمعاناة في مواجهة الهمجية والسادية الصهيونية, التي تسعى إلى اقتلاع الفلسطيني من منابته واجتثاثه من أصوله. والمناضل الفلسطيني مدعو لأن يلتصق بقضيته وأرضه, فهي قضية وجود وضمير وكيان ومستقبل, يرويها لنا الأسير مروان البرغوثي في كتابه “ألف يوم في زنزانة العزل الانفرادي”, الصادر عن الدار العربية للعلوم, وقدّم له الإعلامي زاهي وهبي, الذي وعد نفسه أن يستضيف مروان البرغوثي في برنامجه “خليك بالبيت”.

     كل الدلائل تشير إلى أن إسرائيل التي تتغنى ليل نهار بالديمقراطية, تضرب كل يوم بعرض الحائط المواثيق الدولية وتنتهك حقوق الإنسان, من خلال نزعتها العدوانية والإرهابية, حين تصوّر إرهابها الحقيقي والفعلي على أنه دفاع عن النفس وحق في البقاء, وصاحب الحق الفعلي ومطالبته به تحوله إلى إرهابي عليها مقاومته بكل السبل, وهدفها الخلاص من المناضلين والقضاء عليهم…ولكن روح الجهاد المتأصلة عند الفلسطيني صاحب القضية, الذي وهب عمره لقضيته, تقف عصيّة عليهم…فها نحن أمام المناضل البرغوثي, الذي تحدّى عدوه المتمثل بمُعتقِلُه المحقق “غزال” في عقر داره ومركز قوته وتفوقه, والذي واجهه للمرة الثانية, فقد سبق أن حقق معه حين تم اعتقاله في مقتبل شبابه عام 1978, قائلاً: “أنت كبرت مع القوة والاضطهاد, ولكنني كبرت مع الشموخ والقوة…”. واعتبر البرغوثي أن المعركة بينه وبين المحقق غزال معركة مناضل من أجل شعبه, ومحتل ومعتدٍ أثيم.

     خطّ مروان البرغوثي في كتابه “ألف يوم في زنزانة العزل الانفرادي”, تجربة اعتقاله وتنقله في الزنازين الانفرادية التي كانت – بمنزلة قبور للأحياء – في إضاءة منه على الوحشية الصهيونية التي تنتهجها في معتقلاتها, وأساليب التعذيب الهمجية التي يتفنن بتطويرها ضباط الاحتلال وجنوده بحق الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين, فنجده يصف معتقل “المسكوبية” الذي يطلق عليه الأسرى اسم “المسلخ”, وهو المكان الذي يمارس فيه الضباط الصهاينة أبشع عمليات التعذيب والانتهاكات الإنسانية, التي شبهها البرغوثي بالموت البطيء, ظناً منهم أنهم باعتقاله قد اعتقلوا الانتفاضة الفلسطينية, غير مدركين أنها حركة مقاومة شعبية لا تتوقف باعتقال فرد ولا باعتقال المئات والألوف.

     أمضى البرغوثي عند اعتقاله عام 2002, في زنازين “المسلخ” ما يقارب الأربعة أشهر, وعانى خلالها ما عاناه من أساليب التعذيب المبتكرة, وكان أقساها بالنسبة إليه الحرمان الكامل من النوم, والهجوم النفسي والمعنوي من خلال التركيز على نظرية المؤامرة العربية والفلسطينية ضده, التي طالبت بالقضاء عليه والخلاص منه ومن هم مثله. وركز المحققون الصهاينة في تحقيقهم مع البرغوثي على قضايا كثيرة, أبرزها المطالبة بمعلومات تدين الرئيس ياسر عرفات من جهة, وإقرار منه بفشل الانتفاضة والمقاومة وعدم جدواهما من جهة أخرى, وأكدوا له أن معلومات كهذه كفيلة بإنهاء قضيته وخلاصه من الاعتقال. إلا أن صمود البرغوثي كل هذه المدة أفقدهم الأمل في إجباره على الاعتراف بأي أمر, مما جعلهم ينقلنوه إلى معسكر سرّي أطلق عليه اسم “مملكة المجهول والحرب الخفية”, حيث لا قيود ولا حدود ولا رقابة على التعذيب. وحين قال له أحد المحققين بهدف تخويفه, أنه الآن في مكان مخيف, وأن إصراره على عدم التجاوب معهم أجبرهم على إحضاره إليه, فأكد له البرغوثي أن: “الزنازين في السجون تتساوى…وليس للأسير من زنزانة أو سجن ينتمي إليه”. وعلى الرغم من مرور الأيام القاسية والمريرة, إلا أنها زادته تحدياً وصموداً, وكان يسجل في كل يوم يمضي على وجوده في ذلك المعسكر, انتصاراً منه على جلاديه….وحذّر البرغوثي في كتابه المناضلين والأسرى من  الدور الكبير الذي يلعبه العملاء, الذين هم جزء من فريق التحقيق, وهم أكثر خطورة من ضباط المخابرات الإسرائيلية في كشف المعلومات وتوريط المعتقل.

     قررت حكومة الاحتلال تقديم البرغوثي إلى المحكمة المدنية بعدما أعدّت له لائحة اتهامات تشمل أكثر من 52 تهمة. والتعمد بتقديمه إلى محكمة جنائية تستهدف إبراز معاناة الطرف الإسرائيلي, وإخفاء معاناة الطرف الفلسطيني. وهذه هي السياسة الصهيونية, وهي تسخير الإعلام العالمي لصالحها كذباً وبهتاناً, والعمل على إلقاء الستائر السود على أفعالها الشنيعة ومجازرها ضد الشعب الفلسطيني… رفض البرغوثي المحاكمة وقرر عدم تكليف محام للدفاع عنه, وعدم التعاطي مع لائحة الاتهامات… وفي مرافعته في المحكمة خاطب الإسرائليين بالقول: “لماذا يصر اليهود على تكرار ما تعرضوا له وما عانوا منه عبر التاريخ في مواجهة الشعب الفلسطيني؟”… وطالب البرغوثي بحملة عربية ودولية وحقوقية تنادي باعتبار المعتقلين في سجون ومعسكرات الاحتلال الإسرائيلي: “أسرى حرب”. فقد أصدرت المحاكم الصهيونية على مدى السنين, أحكاما ظالمة وجائرة أدت إلى قضاء الآلآف من الأسرى سنوات أعمارهم خلف القضبان.

    في مطلع كانون الثاني من عام 2003, نُقل البرغوثي إلى زنزانته في سجن الرملة, التي وصفها بالقبر الموحش, عانى فيها العذاب النفسي والروحي. وعلى الرغم من كل هذا قرر أن يكسر حسابات جلاديه وتوقعاتهم, فلم يسمعوا شكواه ولم يروا خوفه أو فزعه, وحصل هذا معه لأنه عرف تفاصيل زنزانته التي تعودت هي عليه, فعرف مواعيد تسلل ضوء الشمس ليغتسل بالحياة, وعلم متى يدخل ضوء القمر ليقيم معه علاقة حميمة… ثم نقلوه إلى سجن “شطة”, الذي يُعتبر أسوأ السجون الإسرائيلية. واكتشف البرغوثي أن المناضل حسن سلامة زميلٌ له في إحدى زنزانات السجن…, وأخيرا نُقل إلى سجن بئر السبع, حيث كانت الزنزانة هناك أشد سوءاً من سابقاتها, فعاش مع الصراصير وأسراب النمل بالإضافة إلى الجرذان. وأشار إلى القلق الصحي الذي يصيب الأسير في زنزانته الانفرادية, في ظل غياب الرعاية الصحية والاستهتار بحياته, وسوء التغذية, وهي مظاهر القتل البطيء. والأمر الذي كان يكسر عزلة السجن هو ساعة يخرج فيها الأسير إلى النزهة, وهي ساحة تطل على نوافذ بعض الأسرى, وقد علّمهم البرغوثي العبرية, كي يتسنى لهم التفاهم مع السجانين, والحفاظ على بعض حقوقهم وفهمها… والمعاناة لم تمنع البرغوثي من الاستمتاع بالقراءة بعدما تمّ السماح للأسرى بالحصول على الكتب, فهو يرى أن من متع الحياة قراءة كتاب تحبه, وخصوصاً الرواية التي تحرر الإنسان وتحلّق بخياله خارج واقعه.

     طرح البرغوثي قضية المرأة ودورها الجوهري إلى جانب الرجل في بناء المجتمع. وأضاء دور المراة الفلسطينية التي شاركت الرجل النضال من أجل الحرية والاستقلال, المتمثل في زوجته الحبيبة فدوى, التي قامت بمجهود جبار, وحملت قضيته وقضية الأسرى. وكان لها نصيب الأسد من إهدائه في مطلع الكتاب: “إلى حارسة حلمي ورفيقة دربي وشريكة عمري”.

   قرأ البرغوثي رسالة ولده القسام الذي تم اعتقاله من قبل الاسرائليين طمأنه فيها: “لا تهتم يا أبي…فلقد علمتني أن فلسطين أكبر من كل شيء”… وبعث البرغوثي لولده, رسالة قصّ له فيها أهم محطات حياته, وكانت أقسى هذه المحطات وأشدها إيلاماً حين تم إبعاده, وكان أعظمها لحظة العودة.

   وعن خبر استشهاد ياسر عرفات قال البرغوثي: “شعرت بأنني أختنق, وانفجرت عيناي بالدموع لأول مرة منذ اعتقالي”. ورأى أن اغتيال ياسر عرفات قضى على فرصة السلام. وأكد أن إرادة شعب يتطلع إلى الحرية لا يمكن أن… تنكسر!!

                                                                           منى الشرافي تيّم

الرجاء ترك تعليق