المفكر والمثقف العربي….تواضَعْ لله!!

   يحمل الفكر بين طياته قوالب فكرية, تضم رؤىً ومعانيَ لها أبعاد إنسانية ومجتمعية وثقافية, بالإضافة إلى مَقدِرات ومُقدرات تُقدم من خلال سلوكيات معينة لها ارتباطاتها وأهدافها وقيمها وأخلاقياتها. وهذه القوالب على اختلافها, تحمل رسائل على جانب كبير من الأهمية والخطورة, فهي حائرةٌ بين أمرين: إما أن تقدم عمقاً فكرياً وحضارياً ينهض بالأمة والمجتمع, وإما أنها تحمل التخلف الفكري الذي يعتمد التدليس والتزييف في عالم العولمة والحداثة من خلال عمليات منظمة لعزل حقول الفكر والثقافة المنتجة, وإقفال سُبل التقدم بمعناها الحقيقي, وكل ذلك في سبيل شعارات برّاقة تعمى لها القلوب قبل العيون!

     الثقافة لسان الشعوب الناطقة.. والفكر النيّر يدعو إلى التلاقي والتحاور والتعارف والانفتاح على الآخر مهما اختلف عنا فكراً وتوجهاً ومذهباً, من خلال التركيز على الأصالة الإنسانية الخيّرة، خصوصاً تلك التي تعمل على مدِّ جسور الاطلاع، وبناء قلاع المعرفة، وتشييد صروح التطور الفكري والأدبي والعلمي. والثقافة والفكر بما يحملانه من معاني, ليسا حكراً على أحد, وهما دعوة للتفاعل والتبادل والتعارف, ولا قيمة للمجتمع البشري, بل لا مستقبل له في ظل التباعد والنفور والتقوقع.

تتعالى الأصوات التي تطالب بمجتمع مثقف ذي أفق واسع, يقرأ ويطّلع ويكتسب من كل ما يدور حوله, لرفع مستواه الإنساني والحضاري, وكي يفيد من ثمار عقول المفكرين, المصقولة بالخبرة والتجربة والكفاءة. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه في خضم هذا الصراع القائم بين المفكر العربي وبين المجتمع المراد تثقيفه هو: أين هي هذه العقول العربية التي تحمل على عاتقها تقديم الثقافة والفكر لأبنائها في قوالب ممتعة, قادرة على المزج بين أنواع الثقافات المختلفة ومن ثم صياغتها بأسلوبها الخاص، ملونة بألوان فكرها وتوجهاتها وأهدافها؟

     والإجابة على هذا التساؤل ليست صعبة, وذلك لأن عدداً كبيراً من كبار المفكرين والمثقفين والأدباء والكتّاب العرب,  يتصدرون صفحات الجرائد, ويؤمّون المؤتمرات الفكرية, ويلقون المحاضرات, ويحضرون الندوات الثقافية, هم بحاجة إلى جرعات عالية مركزة من التواضع المعرفي!! لأنهم وللأسف لا يقومون بواجبهم المنوط بهم لتحريك عجلة التغيير والمساهمة في تحسين المستوى الفكري في كل مجالاته, بل ينظرون بدونية لمن هم دونهم علماً ومعرفة أو ربما شهرة, وهم إنما يقرأون ويكتبون ليس لنشر معرفة معينة أو جديد بعينه أو تقديم الإفادة والمعلومة لمن حولهم, بل لمزيد من التعالي وإرضاء الغرور المعرفي. ونراهم في نقدهم لأعمال الآخرين وفكرهم, لا يتكلمون عن جودة أو رداءة تلك الأعمال أو الأفكار التي جاؤوا بها, بل نجدهم يتكلمون عن أنفسهم, وسعة ثقافتهم, وحجم المعلومات التي يمتلكونها والكتب التي قرأوها, وعلى وجه الخصوص تلك الأجنبية منها, وهم بذلك لا يوهمون إلا أنفسهم, أنهم يملكون علوم الدنيا. وكل ذلك من خلال فلسفة الأمور والقضايا المطروحة, ووضعها في رونق فكري عولمي عشوائي أو حداثي معقد, بالإضافة إلى اجترار الجمل والشعارات الطنانة. وحين ينتقدون أعمال غيرهم لا ينظرون إليها على أنها أعمال قد تحمل أفكاراً نيرة, أو عقولاً مبدعة, من خلال اعتماد مناهج التفسير والتأويل والكشف والتحليل والتقويم, التي من شأنها الكشف عن مواطن الجودة والرداءة فيها, من أجل النهوض الفكري والثقافي والعلمي والأدبي والسياسي. ونظرتهم الضيقة المكبّلة هذه, تتأتى من حدود وأطر رسموها على مقاييسهم, فهم يخالفون فقط ليختلفوا. تطبيقا للمثل المأثور, خالف تعرف… والويل والثبور لكل من يخالف هذه المقاييس, كما يحرصون حرصاً شديداً على تقزيم صاحب العمل وإحباطه, كي يتأكد لهم, أنه سيفكر ألف مرة قبل أن ينتج جديداً أو يعلن عن أمر ما, مما يؤمّن لهم التواجد الدائم, ويمنحهم شعورا بالهيبة الوهمية, كما فيه إرضاءً لغوغائية المعرفة لديهم, التي يعتقدون أنهم يمتلكونها بكل ما تحويه من مغالطات. ولو أنهم منحوا غرورهم الفرصة, كي يخرجوا من قوقعة عظمتهم الواهية, ونظروا حولهم, ووسّعوا أفقهم وثقافتهم, للاحظوا أن أكبر الفلاسفة والمفكرين والكتّاب والعلماء العالميين على مر العصور والأزمان, قد أثروا في الناس بتواضعهم, ولم يشغلهم أي شاغل عن تقديم ونشر فكرهم وكل ما توصلوا إليه من علوم واختراعات واكتشافات, بأسهل الأساليب وأكثرها قرباً إلى قلوب الناس وعقولهم.

     إن انحراف أهداف معظم مفكري الأمة ومثقفيها عن مسارها النبيل في سبيل الأنا العظمى, لا تقل في خطورتها عن سلطة الأنظمة الفاسدة واستبدادها, التي سعت جاهدة إلى تكبيل الجيل الجديد الواعد وإدخاله في متاهات ظلامية, أدت إلى انقطاعه وتخليه عن التواصل والتفاعل مع كل ما يجري من حوله.

     اليوم أدعو إلى ثقافة من نوع آخر, هي ثقافة “التواضع المعرفي” الإنساني, التي تُكتسب من كل ما يدور حولنا، فهي صقل للنفوس، وتهذيب للمنطق، وتأييد للفكر، وتقوية الحجة، وإنارة الطريق، ورفع المستوى الإنساني والحضاري. واعتبارها جزء لا يتجزأ من الكيان الإنساني الذي ينمو ويتطور كل يوم بوساطة كل ما تقدمه له الحضارات والمجتمعات البشرية…أدعو اليوم إلى ثورة  صوتها صارخ في مواجهة أولئك الذين تربعوا على عروش الفكر المتحجر, والمعرفة الزائفة, ونشروا ثقافة الغطرسة والتهميش؟!

منى الشرافي تيم

الرجاء ترك تعليق