شهرزاد زين الدين وشهرياره

     المعنى النقدي بحره واسع, وشروطه معقدة, وإتقانه غاية تتسع حدودها في فضاء التجربة والخبرة والكفاءة, والفكر يتجدد مع كل فجر جديد. ومن هذه العبارات القليلة التي يتسع في مضمونها المعنى النقدي, نطلُّ على شهرزاد العصر وشهرياره,  كما أحبَّ أن يسميهما الكاتب والناقد سلمان زين الدين في كتابيه: الأول, “شهرزاد والكلام المباح” وهو مقالات نقدية في ثمانٍ وثلاثين رواية نسوية, لثلاث وثلاثين رواية عربية. والثاني, “حين يروي شهريار” وهو  مقالات نقدية لخمسين رواية كتبها خمسون روائياً عربياً, وقد سبق نشر هذه المقالات في الصحف اللبنانية والعربية… وصدر الكتابان عن الدار العربية للعلوم ناشرون.

     قدم لنا زين الدين في كتابيه, مادة أدبية ونقدية قيّمة, حين صال وجال في فضاء الرواية العربية, التي تشهد اليوم انتشاراً واسعاً في العالم العربي ؛ وقد تناولها بكثير من التفسير والتأويل والكشف والتحليل والتقويم, من خلال نصوص متنوعة تراوحت مواضيعها بين السياسة والوطنية والتاريخ والاجتماع والثقافة والحب والوجود والفلسفة والتناقضات النفسية والانسانية.  كما أضاء الأدبين الأنثوي والذكوري في آنٍ واحد, مع إصراره أنه ليس بالضرورة أن تكون موضوعات النساء في رواياتهن أنثوية, أو موضوعات الذكور في رواياتهم ذكورية, ” ثمة في الكتابين الكثير مما يتعدى هذا الفصل التعسفي بين الجنسين”. ونستطيع القول: إن رحلة زين الدين الشاقة  واللذيذة في روايات الكاتبات والكتّاب الذين انتقاهم  من مختلف أنحاء الوطن العربي, قد منحته الخبرة العميقة والنظرة الثاقبة مؤكداً أن الحركة الأدبية والإبداعية تتخطى الزمن ولا تخضع له, فهو يرى أن “ما كتب في الماضي, وما يكتب في الحاضر من نقد روائي يمكن أن يصلح للمستقبل”. ومادة زين الدين النقدية متفلّتة من النقد الأكاديمي المدجج من وجهة نظره, بالنظريات والمناهج النقدية التي, “تقتل روح النص, وتمسخ جسده, وتحوله إلى بيانات إحصائية ورسوم ما أنزل الله بها من سلطان….”. وأجد أن هذا الحكم على النقد المنهجي جائر نسبياً, فالنقد الأكاديمي الحق ليس بعيدأ عن المنهج الذي اتبعه زين الدين في قراءاته ومقالاته النقدية الغنية. فالكتابة الإبداعية طريقها الأسلوب الأدبي الذي يعتمد الذوق والموهبة والدراسة والخبرة, وعلى هذا الأساس نجد أن العمل النقدي الأدبي فن قد يصل إلى مستوى الإبداع حين يكشف عن أسرار الجمال والقبح فيه, فالناقد يُحاسِب لا للتقليل من درجة إبداع الكاتب أو معاداته, بل لإغناء النص الأدبي, حتى يصبح أكثر نضوجاً, وكي لا يتحول الناقد إلى مؤدٍ أو ناقل أو مجرد قارئ يلخص العمل… وليس هناك فرق بين النقد المنهجي الأكاديمي والنقد الصحفي طالما أن المادة المنقودة والمقروءة تنتمي إلى اتجاه من الاتجاهات الأدبية.

     يرى زين الدين أن شهريار الأسطورة مارس سلطة الفعل, بينما مارست شهرزاد سلطة الكلام, وهذا بالنسبة إليه يقيم توازناً عادلاً بين سلطتين في رسالة مبطنة منه للصراع الدائر بين الرجل والمرأة. ويؤكد أن إطلاق تسمية شهريار على الروائيين, وشهرزاد على الروائيات كان من قبيل التوسع في التجوُّز, فليس أي منهم شهريار, كما ليست أي منهن شهرزاد, وفي نفس الوقت لا ينفي أن في كلٍ منا شيئاً من شهريار وشيئاً من شهرزاد؛ كما يرى أننا نكون أقرب إلى إنسانيتنا حين “يكبر فينا حجم “شهرزاد” ويصغر حجم “شهريار” لا سيما في بعده المرضي”.

     أثبت زين الدين مقدرته على التوغل في بواطن الروايات ومضامينها وقراءة ما بين سطورها والإضاءة على الأبعاد النفسية والعاطفية والفكرية لكتابها وشخصياتها, فنجده في رواية “العصفور الأول” للكاتبة العمانية أزهار أحمد, قد تبين الحالة النفسية القلقة والمضطربة لشخصيتها الأساسية وغرابة أطوارها من خلال انقطاعها عن الواقع وعيشها فصاماً داخلياً. كما سبر أغوار الكاتبة نفسها, مرجحاً أنها أرادت أن تقول إن التجربة القاسية شرط للإبداع. وتساءل: “هل من الضروري أن يُجنّ الكاتب ليكون كاتباً”… أما في رواية “صخرة طانيوس” لأمين معلوف, فقد استنبط زين الدين من أحداثها تاريخ مرحلة زمنية صورت الأحوال الاجتماعية والسياسية للمجتمع اللبناني, من خلال صراع المشايخ والفلاحين, وتجاذب السلطة ورجال الدين والمال. فاتخذ زين الدين من الرواية عبرة, فوجّه في نهايتها رسالة إصلاحية توجيهية إلى اللبنانيين بهدف إنارة أنفاق الظلام, كي يتحدوا ويأخذوا عبرة من التاريخ ويعملوا جاهدين لوأد الفتنة وأن لا يسمحوا للأصابع الأجنبية العبث بهم…ثم وجّه كلامه مخاطباً أمين معلوف قائلاً: “وفي الختام, شكراً أمين معلوف, فالرسالة وصلت”… ثم خرج زين الدين من البعدين النفسي والتاريخي ودخل إلى البعد الوطني, من خلال كتاب “أحلام بالحرية” وهو السيرة الذاتية للفلسطينية عائشة عودة, فتفاعل معها وتلمس في كتابها طريقاً كي يعبر عن عمق رؤيته وروحه الوطنية وحسه بالقضية الفلسطينية فقال: “عندما يكون السجان هو المحتل والسجين هو صاحب الأرض والحق تغدو الكتابة فعلاً من أفعال المقاومة, ويصبح سرد السيرة واجباً وطنياً يسهم في تحصين الممانعة لدى الشعب”. ورأى أن كتاب “أحلام بالحرية” مرآة لصمود المرأة الفلسطينية, وفضيحة أخلاقية للمحتل المعتدي, ثم قرر أن سيرة عائشة عودة في كتابها “أحلام بالحرية” هو نص روائي أكثر مما هو سيرة ذاتية, وذلك بسبب ترجحه بين الوقائع والذكريات والأحلام, والتنقل بين الداخل والخارج والمزاوجة بين السرد والحوار, والتوقف عند التفاصيل والجزيئات, كل ذلك شكل عند زين الدين مادة متكاملة لتسميتها رواية, فاتخذ قراره واعتبرها رواية وضمها إلى كتابه… وعلى البعد الأخلاقي, أطلّ زين الدين من خلال رواية ” شرفة العار” للكاتب الأردني – الفلسطيني إبراهيم نصر الله, فانتقد العقلية القبلية الذكورية, التي تظلم المرأة وتجعلها ضحية مجتمع لا يزال يعيش في جاهليته “فكأننا إزاء طبعة منقحة من “وأد البنات”.

     أما الناحية الشكلية في العمل النقدي عند زين الدين, فقد لاقت منه تركيزاً لافتاً ومختلفاً. فنجد أن العملية النقدية قد تحولت عنده في رواية الكاتب الأردني جمال ناجي “عندما تشيخ الذئاب” إلى عملية حسابية, فتكلم عن المستوى الكمي والمستوى النوعي, ففرق بين حضور الشخصيات الرئيسية والشخصيات الثانوية بنسب مئوية, منها ما تتراوح نسبته بين 21 و23 في المئة بالنسبة إلى الشخصيات الرئيسية, “فيما تطل شخصيتا رباح الوجيه وبكر الطايل بوتيرة سبع وحدات لكل منهما, أي ما نسبته حوالي 15 في المائه”.

    أظهر زين الدين من خلال مقالاته تميزاً في أسلوبه ومقدرة لغوية اتسمت بالحيوية والعمق والخبرة, وسلاسة في اختيار العبارة بالإضافة إلى جمال المعنى … وخير دليل على ذلك ما جاء في مقدمة مقالته عن رواية “فوضى الحواس” للكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي: “أن تكون الحياة موضوعاً روائياً فهذا أمر نقع عليه في روايات كثيرة. أما أن تكون الكتابة موضوعاً للرواية فهذا أمر نادر الحصول”.

    هذا غيض من فيض الملكة والموهبة النقدية التي يتمتع بها سلمان زين الدين, والتي لا يسمح المجال للإحاطة بها, فقد سجل من خلال مقالاته مواقف جديرة بالقراءة والتأمل, وناقش قضايا مجتمعية, وحمل أمانة الفكر والعاطفة والأمل, واحترم كتّابه وأيّد أحقية إبداعهم وحرية تفكيرهم. وأضاء في كتابيه, القيم الفنية والجمالية لديهم, مع التركيز على المضمون والغاية والرسالة. وكان قاضيا عادلا ولم يكن في أي لحظة جلاداً.

                                                                  منى الشرافي تيّم

الرجاء ترك تعليق