هوس

   تمكنت الكاتبة الكويتية رانيا السعد في روايتها “هوس” الصادرة عن الدار العربية للعلوم ناشرون, من التوغل في بواطن العقل الإنساني, وذلك من خلال تصوير الصراع النفسي, الذي يتمثل في غلبة الشعور بالنقص والدونية وما يترتب عليهما من عواقب. كما حرصت من خلال “سلوى السوسي” الشخصية الرئيسية في الرواية إضاءة الأسباب والدوافع المتعددة, التي من شأنها أن تجعل الإنسان غير سوي في علاقته  بنفسه وعلاقته  بالآخرين, فيقع فريسة الاضطراب الذهني, مما يتسبب في تشتت أفكاره واختلال توازنه واضطراب رؤيته, فينتقل من فكرة إلى فكرة ومن موقف إلى آخر دون تمييز أو تقدير, وكل ذلك في دائرة مفرغة من الوهم بعيداً عن الحقيقة والصواب.

     حاكت الكاتبة في روايتها “هوس” من خيوط المعاناة والألم شبكة معقدة من فوضى المشاعر وضجيج الفكر وضياع الهوية, خاضتها سلوى من خلال ذهنية امرأة تسطّح تفكيرها واضطرب تكوينها النفسي, فتمسكت بغايات وهمية أوصلتها إلى اتباع سلوكية خاصة تمثلت في رغبتها المستمرة في التحدي وعدم المبالاة والإثبات الخاطئ للذات, وكل هذا بسبب حرمانها من رعاية أسرية سويّة ونشأتها في بيت مهزوز ومفكك, ترعرت فيه مع عبارات التصغير والتحقير, مما جعلها تواجه شعوراً دائماً بأنها منبوذة ولا قيمة لها وغير مرغوب بها, بالإضافة إلى عقدتها الأكبر, في كونها متواضعة الجمال. وتظهر هذه العقدة جلية في معظم محطات الرواية, ومنها على سبيل المثال حين تصف نفسها: “عظامي البارزة وطولي الملفت ليستا مشكلتيّ الوحيدتين بل إن الشعر الذي يغزو جسمي هو ما يؤرقني”.

    فرّت سلوى من عقدها النفسية وجسدها غير المؤنث كما تقول, نحو إثبات ذاتها بالمباهاة المادية والاستعراضية حين قررت أن تكافئ عقاب, الشاب الوحيد الذي تودد إليها في النادي مما عزز شعورها بالأنوثة وجعلها تشعر بأنها مرغوبة كباقي البنات, بأن تهديه في عيد ميلاده ساعة “رولكس” بسعر 500 دينار في زمن كان متوسط راتب الأسرة فيه لا يتعدى 400 دينار. فلم تكن تملك وسيلة أخرى لتقدير الآخرين أو تحقيرهم بغير المال. إلا أن سفر عقاب المفاجئ  للدراسة في أمريكا دون أن يودعها أفقدها حمايتها الوهمية أمام رواد النادي, الذين كانوا يسخرون منها كلما سنحت لهم الفرصة. ومن عبارات السخرية التي كانت تتلقاها سلوى في النادي: “يبدو أنك لم تتطوري إنسانياً وبقيت أقرب للشامبانزي بذراعين تتدليان للركبتين ينقصك بعض الموز”. كما حرصت الكاتبة على رسم معالم الانفلات والتحرر الاجتماعي التي تسود النوادي في بلد يتسم بالمحافظة.

     برعت الكاتبة في تصوير الهروب النفسي القسري من الذات والمحيط والواقع, الذي تمكّن من  سلوى وسيطر على تصرفاتها, فكل شيء من حولها يدفعها إلى هذا النوع من الهروب الذي استوطنها, بسبب فقدانها الحب والحنان داخل أسرتها؛ إذ لم يكن بين أفرادها أي نوع من الحميمية كالتلامس والاحتضان أو التقبيل, فوالدها رجل شرس, وبذيء اللسان, وسيّء السمعة, وتكثر الأقاويل والشكوك حول مصادر ثروته . وأمها التي يُهينها والدها بمناسبة أو غير مناسبة, ولا يفتأ يعيّرها بفقر أسرتها ويطلق على والدها لقب “الحافي”, وعلى الرغم من ذلك فهي تعيش ذلاً  مستتراً تغطيه بالألماس والسيارة الفارهة. أما أختاها سناء ونهاد, فهما تعيشان مع زوجيهما حياة اشتراها لهما والدهما بماله وبصناديق الويسكي, وقد ورثتا عنه بذاءة اللسان. والجانب الإيجابي الوحيد في حياة سلوى, كان يتمثل في أجواء صديقتها لمياء وأسرتها المتماسكة, التي تتميز علاقة أفرادها بالمحبة والحنان والألفة والاحترام, وكل هذا حيّرها مما جعلها تتساءل: “بيت لمياء فتح عيني في سن مبكرة على أن هناك خللاً عظيماً إما في منزلنا أو منزلهم”.
وشكّل حادث السير الذي تعرضت له سلوى وأُدخلت على إثره المستشفى, نقطة التحول الأكثر سلبية في حياتها, مما عزز لديها الإحساس بعدم  اكتراث أسرتها لما حلّ بها؛ فأختها نهاد زارتها في المستشفى وكان جلّ اهتمامها السيارة التي تحطمت بسبب الحادث, ونقلت إليها أعذار أفراد الأسرة وأسباب تأخرهم عن زيارتها, وذلك أن أختها سناء سافرت مع زوجها عارف خوفاً عليه من عشيقته سوسن. وأمها ستزورها في الليل لأنها مدعوة على غداء مهم عند منيرة على شرف أميرات خليجيات. كل هذا سرّب إلى نفس سلوى الشعور بعبثية حياتها وأن موتها لا يعني أحد. وفي غمرة أفكارها السوداء, زارتها نهى زميلتها في الجامعة, التي ترتدي حجاباً أبيض, وهي من ناشطات القائمة الائتلافية في الجامعة. وتحينت نهى الفرصة لدعوتها إلى الحجاب, وحين شعرت سلوى أن أسرتها ترفض فكرة الحجاب تمسكت به تحدّياً لهم فقط لإزعاجهم, على الرغم من عدم اقتناعها به. وكانت أيام الحجاب الأولى مرحلة جميلة من حياتها, حيث شعرت بالحب والحنان والرعاية التي أحاطتها بها الأخوات.

     سلكت الكاتبة مسلكاً نقدياً مبطناً للسياسة وتداخلها مع الدين, فتاهت معالم الدين وتعاليمه في فوضى المصالح, فزوجت فارس الشاب الوسيم الملتزم دينياً, والذي ينتمي إلى الجماعة الإسلامية من سلوى. ولكن التزام فارس لم يدم طويلاً مما وسّع الهوّة بينه وبين زوجته, التي كانت قد أنجبت منه طفلتين. وانتهى زواجهما بطلب من سلوى بعد أن قرأت قصيدة له ينتقد فيها الشَعر الذي كان يغزو أطرافها ووجهها فعبّرت عن كل ما جال في كيانها في تلك اللحظة: “جلستُ على أرض المكتب ووضعت رأسي بين ركبتيّ وبكيت كما لم أبك طوال سنواتي الخمسة والثلاثين, بكيت كل شيء بكيت بيت أهلي الذي لم أشعر فيه يوماً بالراحة, بكيت فقدان الحنان, بكيت جسدي غير المؤنث بالدرجة الكافية, بكيت الشَعر اللعين الذي يغطيني ويعيبني…”.

     وبعد حصولها على الطلاق الذي ندمت على طلبه, شنّت سلوى حربها الضروس على طليقها فارس الذي تزوج من امرأة هي التي أسهمت في صنعها, مما أدخلها في حالة مستعصية من الهوس المرضي القهري, فرفعت على فارس الدعاوى في المحاكم, كي تنغص عليه فرحته بعروسه الشابة الفاتنة يارا, التي وقع في حبها. فأهملت تربية ابنتيها وجعلتهما أداة لابتزاز والدهما, كما عاشت أيامها على أمل استرجاع فارس. وللوصول إلى مبتغاها دخلت مع يارا في منافسة وهمية من جانب واحد, وذلك من خلال تجنيد ابنتيها لنقل أخبارها, ودفع الأموال للخدم الذين يعملون في بيتها للتجسس عليها وتصوير خزانات ثيابها. وأصبحت تلاحقها مثل ظلّها في كل مكان تتوجه إليه أو تتواجد فيه. واضطرابها وهوسها القهري جعلها تطلب الزواج من المحامي آدم, وسخّرت كل إمكانياتها المالية لتحقيق ما كانت تصبو إليه, ولم يكن ما تصبو إليه إلا أوهاماً لم يكن لها وجود إلا في ذهنها….!!

     نجحت الكاتبة في توظيف خيالها الروائي لصياغة أنموذج مرضي وحالة مجتمعية واقعية الطرح والمضمون, لأنها أشاحت اللثام عن العقد النفسية, التي تتأصل في النفس الإنسانية منذ الطفولة وتنمو معها, والتي من شأنها أن تصوغ الشخصية المضطربة. وكل ما سبق يؤسس لبيئة غير سوية تفصل الإنسان عن ذاته, فتبقى طاقاته دفينة لا يمكن استثمارها, فيفقد بذلك مقدرته على الاتصال السوي بالآخرين والتأثير فيهم.

                                                                          منى الشرافي تيم

الرجاء ترك تعليق