دمية النار

     المصادفة البحتة والخيال المجنّح, هما اللذان قادا الكاتب الجزائري بشير مفتي إلى كتابة روايته “دمية النار” الصادرة عن الدار العربية للعلوم ناشرون ومنشورات الاختلاف, والتي تم ترشيحها مؤخراً ضمن اللائحة الطويلة لجائزة البوكر للرواية العربيّة. فقد كان الكاتب مدفوعاً بسحر جنوني إلى تحقيق وجوده الحقيقي ككاتب, كما كان يُمنّي نفسه بمستقبل زاهر في عالم الكتابة الروائية, التي كان مستعداً للتضحية من أجلها بأي شيء, وطالما شعر بأن هناك شخصاً آخر يسكن داخله ويقطن رأسه, إلى أن التقى رضا شاوش, ذلك الشخص الغامض, الذي يثير الحيرة والتساؤل, بالإضافة إلى نظرته المرتابة من الآخرين, عند رجل يناديه الجميع “بعمي العربي”. فحرّك فيه الفضول, ومنحه شعوراً بأنه يشبه تلك الشخصيات الروائية, التي تملك ماضياً معقداً, وتجربة مرّة وحيّة في الوقت عينه, فقرر مطاردته, والتعرف إلى شخصيته, وسبر أسراره واكتشافها. ولكن فيما بعد, ومع مرور السنين, وفي الوقت الذي فقد فيه الكاتب الأمل في لقائه, إلى درجة سيطر عليه هاجس أن يكون قد تخيّل وجوده فقط, ضحك له القدر وحقق له ما تمناه وأكثر, حين منحه رضا شاوش ومن غير موعد ودون عناء البحث والتنقيب, مادة روائية دسمة من خلال مخطوط,  سرد فيه سيرته الذاتيّة, التي عبرت بوضوح عن تجربته الحقيقية, مذيّلة برسالة قال فيها: “حكاية هي قصة خيبة, وجرح ووهم…قصتي أنا بكل حروفها السوداء, وأبجديتها الحارقة…”, فأشبع المخطوط بمضمونه الجانب الأدبي الذي كان يسكن ذات الكاتب, فهاله ما فيها من غرابة وسحر, ثم حفظ الأمانة وقدّم القصة كما كتبها رضا شاوش بلا تغيير أو رتوش.

     دمية النار, هي ذلك التحول الكبير والخطير, الذي طرأ على شخصية المواطن الجزائري رضا شاوش, في حقبة السبعينات والثمانينات, فنقلته من طور الشخصيّة المستسلمة والمسالمة, إلى طور الشخصية الشريرة, ذات الوجه المخيف’ الذي خلت من ملامحه الروح… فعكسته مرآته حين أضاع هويته النفسيّة تحت أنقاض إرادته, التي أسدلت ستارها على إنسانيته وسلبته ذاكرته البريئة, فوصل إلى قناعة: “أن الإنسان لا يقدر على تحمل بأنه مهان في بلده, محتقر, وضعيف, ولا شيء يسنده عندما تضيق به الطرق وتسد في وجهه الأبواب” فحوّلته إلى رجل آخر يمتص دماء الآخرين, ويزهق أرواحهم  كي يعيش. فها هو يعبّر عن نفسه قائلاً: “صرت الشر, ودمية الشر, صرت الشيطان, ودمية الشيطان, صرت تلك النار اللاهبة والمستعرة, النار الحارقة والمسعورة, صرت مثل دمية النار, تحرق من يمسكها”.

     قد تكون الأعمال الأدبية, خصوصاً السير الذاتيّة, هي الأكثر قرباً وتعبيراً عن الواقع الحقيقي والمعاش, من خلال أبعاده الاجتماعية والسياسية والتاريخية والنفسيّة. فمواجهة الوجه القاتم للحياة, المتمثل في الكذب والخداع والتوهم والغدر والقسوة والحرمان, كلها أمور تلعب دورها في إخضاع المرء وتسييره, خصوصاً حين تشطره إلى نصفين, فيحتار بين مبادئه وقناعاته, وبين الصراعات التي يكون فيها البقاء للأقوى, من ذوي النفوذ والقوة والسلطة. فلن يُكتب البقاء لقوي إلا بإضعاف الآخر, وقهره, وإلغائه. ولكن الحلقة الأضعف والأخطر في لعبة القوى, التي تتوه في غياهبها القلوب الميتة, هي أن لكل قوي من هو أقوى منه, وكثيراً ما يتحول الصياد إلى فريسة. وقد تمثل هذا الأمر جلياً, حين طلب صاحب النظارات السوداء من رضا’ أن يقتل الرجل السمين, الذي كان ينفّذ تعليماته, وكان السبب في صعوده وارتقائه؟! وبينما هو مقبل على تنفيذ المهمة التي أُوكلت إليه, أعترف له الرجل السمين, بحقيقة أن والده لم ينتحر, بل هو من دفعه من الطابق العلوي, وذلك بسبب صحوة ضميره, حين اكتشف أنه لا يحمي بلده, بل يحمي الجماعة التي تدير دفة البلاد, ملمحاً أن الدائرة ستدور وستصله عاجلاً أو آجلاًّ! وهذا الأمر لم يخفَ على رضا شاوش, فقد كان يعلم أنه ومن مثله, كالدمى تتحرك لغايات وأغراض محددة, وعندما تنتهي مدة عملها، تستبدل بدمية أخرى.

     والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل كان رضا شاوش شاباً مسالماً في بدايات حياته, كما أوحى لنا حقاً؟ أم أن القسوة التي تولّدت لديه, كان نبعها تاريخياً ومتوارثاً وليس قدريّاً؟ ألم ينتقم حين كان مراهقاً, من رانيا جارته, وفتاة أحلامه، وحبه الوحيد, حين اكتشف ارتباطها بآخر؟ فوشى بها لأخيها, الذي برّحها ضرباً أمام عينيه, وبدل أن ينقذها من ركلاته, وهي تستغيث به, عبّر عن مشاعره: “ولأول مرة ذقت فرح التعذيب… تلذذت بضربها من طرف أخيها الأحمق”…

    تحمل رواية دمية النار, عمقاً خطيراً يضيء الفساد المنظم عند قوى الأمر الواقع, أصحاب الكلمة والقرار والنفوذ, الذين لا يعبّرون عن إرادة مواطنيهم وشعوبهم, بل عن مصالحهم غير المشروعة. ومفادها أن ماضي المواطن العربي مظلم, وحاضره قاتم, ومستقبله مزيج من الماضي والحاضر معاً. فالخوف والظلم والقهر والسجن والتعذيب وانعدام العدالة, كلها مشاعر تولّد السيد والطاغية والمستبد, وتخلّف العبد والمنقاد والمنهزم, وتؤدّي إلى مزيد من الانحدار والسقوط والانهزام والخضوع… وخير مثال على تهاوي قيمة الفرد في منظومة الكبار وأزلامها, هو استفسار رضا شاوش عن سبب اضطراب رجال الدولة وقلقهم, حين ارتفعت نسبة الانتحار في مدينة قريبة من الجزائر العاصمة…  فجاءه الجواب من الرجل السمين: “بأن الانتحار ربما يكون نوعاً من الاحتجاج على الوضع, وهذا غير مقبول..”؟!

      اختلطت ملامح رضا شاوش في الرواية, فلم يكن وهماً أو خيالاً, ولم يبدُ حقيقياً, فقد طغى عليه بعدان نفسيان تزاوجا بين الظاهر والباطن, وبين المعلن والمضمر, فطالما آمن أن الحياة تستحق أن نحيا من أجلها, لأنها هبة السماء… ولكن, هذا الإيمان تلاشى, حين فقد روحه في دهاليز الشر والقتل والفساد, وتساءل: “هل كنت أقاوم ذلك الفقدان؟ ذلك الإحساس الغريب بالليل والظلمة القاتمة والروح التي لم تعد لها روح؟ أم فقط هي لحظتي التي كنت أرى عبر مرآتها الشفافة, روحي وهي تنتهي, وهي تذهب ذهاباً نهائياً, بلا أمل عودة للحياة التي كنت أتمناها ذات زمن بعيد”.

     وفي قراءة لما بين سطور رضا شاوش, قد ينتابنا ذلك الإحساس, الذي ينبئ بأنه كتب سيرته لهدف كشف المستور وراء كواليس الظلام, ربما كانت هذه طريقته الخاصة في تبرئة روحه, وتصفية خلافاته مع ضميره, تماماً كما اختار والده من قبله, تطهير روحه بادّعائه الجنون, ومن ثم تمّ ترتيب عملية اغتياله على أنها انتحار, وهي حقيقة اكتشفها رضا متأخراً, بعد أن أرّقه لغز والده زمناً طويلاً… وكان يؤمن أنه قد ورث طريق والده, الذي ناضل بشراسة كي لا يكون مثله, ولذلك قرر عدم الزواج والإنجاب, متذرعاً بمقولته: “لن أعطي للعالم أطفالاً يصبحوا في لحظة من تاريخهم مصاصي دماء, أو من فصيلة آكلي لحوم البشر… مثلي”.

     وأخيراً لا بد من الإشادة برواية “دمية النار”, جملة وتفصيلاً, باعتبارها عملاً أدبياً إبداعياً تميّز بجرأة الطرح في قالب لغوي سلس ناضج وعميق… شابته بعض الأخطاء الإملائية واللغوية…؟!

     يختم الكاتب روايته ببراعة, حيث يستقر في ذهن القارئ ذلك السؤال: هل شخصية رضا شاوش  حقيقة أم من صنع الخيال؟؟؟

منى الشرافي تيم

الرجاء ترك تعليق