أحوال الجنرال

     حلّق بنا الشاعر الفلسطيني الأردني إبراهيم نصرالله في ديوانه “أحوال الجنرال”, الصادر عن الدار العربية للعلوم ناشرون, إلى فضاء شعري واسع تحدى فيه الأطر والحدود حين رسم بكلماته قصائد نثرية,  تميزت بإيقاعها النفسي من خلال عمق المعنى, بالإضافة إلى موسيقى داخلية اعتمدت على رؤى شفافة ومكثفة من التخيل والرمزية والإيحاء والصورة, وكل ذلك من خلال سياقات دلالية عميقة, وغنية بالإحساس,تناولت حقائق ووقائع اتصلت اتصالاً مباشراً بالمشاعر الإنسانية المتمثلة في الوطنية والانتماء, فضلاً عن الصور العدوانية المستعرة التي تلتصق بالذاكرة والوجدان. فقد غنّى للوطن العربي ومن وجعه وعمق ألمه قال: “إني لا اذكر أين اكتملت دائرة الموت/ هنا.. أم في الخرطوم؟/ هنا أم في أسوان؟/ هنا أم في جدة؟/ وهنا أم في بغداد؟/ أتعبني تعبي/ مقصلةٌ.. / ابتلعت شعباً وبلاد” – وكان من الأجدى, لغوياً استخدام كلمة بمعنى الفصل للمقصلة عوضاً عن ابتلعت –

   وديوان “أحوال الجنرال”, مؤلف من اثنتي عشرة قصيدة, حملت عناوينها رمزية مضامينها وإيحاءاتها: أحوال الجنرال, أغنية للحياة, الحوار الأخير قبل مقتل العصفور بدقائق, حوارية الصديقين, حوارية الغريب, الفتى النهر..والجنرال, أوراق من مفكرة شارع عربي خلال الانتفاضة, الطائر, الذئب, القبر, راية القلب, فضيحة الثعلب.

     غزارة في المعاني الإنسانية, التي صورت المعاناة والكيد والقهر والاضطهاد والسخرية, توالدت في قصائد نصرالله النثرية. فنجده في مطلع ديوانه, آمراً العسكري بلسان الجنرال: “أيها العسكري/ هيئ لنا السرج..والصولجان/ الرِّكاب.. العنان.. الرّدى والزناد/ كي نمتطي هؤلاء العباد/… أيها العسكري/… هيئ لنا عاشقة/ لنرمل أبيض فستانها/ وهيئ لنا طفلة/ لنيتّم أجمل ألعابها” ثمّ تنطلق عواطفه وتتفاعل شفافية ذاتيته وحساسيتها مع “أغنية للحياة” بصوت خافت وهادئ, امتزجت فيه الطبيعة  بالدماء وذاكرة الجراح: “سأستعير من غصون اللوز خضرة البلاد/ وأستعير من جذوع النخل سارية/ واستعير من غناء الطير في الغابات وردة/ ومن سفوح الشمس مهرة/… في ليلة الدماء نذكر الدماء وحدها/ فأيُّ ذاكره؟!/ تلك التي تنام في انفجارنا/ وتسكن الحقائب المسافرة/… وتبصر القتلى.. تفاصيل الجراح.. الخوف/ ظلَّ الموت في الدخان”.

     حافظ  ابراهيم نصرالله في قصائده على تناغم الأبعاد الفنية مع المضمون, الأمر الذي منحها نبضاً وحساً ودفقاً إنسانياً جلياً, وكل ذلك أضفى على نصوصه قيمة جمالية إبداعية لها تميزها وتأثيرها وموسيقاها. فنجده في قصيدة “الفتى النهر.. والجنرال” يجعل للحكاية جذور متينة من الكلمات, التي  تخترق الريح وتوقظ الضوء وترسم ملامح الغد, هي حكاية جندي على ضفة النهر: “لا تجيء الحكاية من غيمةٍ تعبر الأرض ظلاً/ وتتركنا عرضةً للذبول/ ولا من يدٍ كلما قام في دمنا طائر”, “فاصهلي واعبري الأرض أيتها الكلمات كما الريح/ ولتوقظي الضوء في شرفات المدائن/ ها مشعل الدم فيك توهج/ حتى انجلى السرّ كالعرس وانتشر الأرجوان/ حكايتنا.. نصفها غدنا/ وما يتبقّى أغاني القرى/ حين ينهض فيها الحماس حصان”.

    دلّت قصائد “أحوال الجنرال” على سعة ثقافة إبراهيم نصرالله, وعمق تجربته ونضوجه الفكري وثراء لغته, مما جعله يوازي بين الجماليات الفنية في التجربة الشعرية, وبين جدليات الحياة في سلبياتها وتحدياتها وتجاربها, فها هو يتغنى “راية القلب”, نزفاً ندياً, في موقف ضد الموت, مع بداية صباح يحلم بالنسيان حين يتحول القلب حساماً, فيفرُّ صاحبه من جسده كي يروي الحكاية: “سأبدأ هذا الصباح وأنسى مرورك فيِّ/ وأنسى أفاعي خطاك التي تعبر الدم/ أنسى… وأستلُّ قلبي حساما/ أنا خارج الأسود المترامي على سطح هذي القبور/ أنا داخل الزنبق المتصاعد من ظلنا نحو عشب ودور/ أنا خارج الداخل المتفجر/ من جسدي هارب ما تعودت يوماً مقاما”. كما أنّ “راية القلب” هي قصيدة رائعة لا يملّ القارئ من إعادة قراءتها وفي كل مرة تنجلي له فيها معانٍ ودلالات وصور جديدة

       تنافرت وحدة الموضوع في بعض القصائد, وهو الأمر الذي من شأنه أن يشتت ذهن القارئ, ويؤدي به إلى الشرود الذي لا يخدم النص, وخصوصا في القصائد الطويلة التي هي بحاجة إلى الكثير من التركيز والمتابعة, ومثال على ذلك قصيدة “الطائر”. وعلى الرغم من ذلك فإن  نصرالله لم يعتمد لغة الطلاسم الحداثية الدارجة في الشعر العربي الحديث اليوم, بل جاءت في معظمها على شكل إيحائي رمزي متناسق, برزت فيها كثافة المعنى, التي حفّزت الفكر والخيال, وأكدت التفاعل مع رؤى الشاعر وأحلامه وهواجسه والظلم الطاغي على عالمه. وظهر هذا كله في قصيدة “فضيحة الثعلب”: “هاهي صورتك المنقوشة على بقايا الأرض/ وملامحك النافرة فيما تبقّى من فضاء/ لا تشبهين الشمس المعلقة خلفك في الصور”, “بعيدة كقطرة ماء يتطلع إليها الرمل/ لا أحد يتكئ فيك على أحد/ والطوابق سباق القتلة للابتعاد عن/ الأرض المشبعة بالصرخات والدم/ الباحث عنك لن يجد روحه/ والحامل إليك وردة لن يجد سوى شاهدة القبر/ ظلالك يابسة على الكتف العاري/ وشوارعك لا توصل أحدا”.

      وقصيدة “أوراق من مفكرة شارع عربي خلال الانتفاضة”, تُبرز الهم الوطني الذي يُثقل أحاسيس نصرالله ومشاعره. كما يخترق صدقه فيها وجدان القارئ, فيتفاعل معه ويعيش همه. والقصيدة من وجهة نظري الشخصية, أجمل قصائد الديوان التي يبدع فيها من الكلمات صوراً حية تنبض ألماً وغضباً وحنقاً.. فها هو يحوّل روحه إلى جذع يستند إليه ويرفض الفلسفة التي منحت أناس وطن الحياة, وجعلت لآخرين هوية القبور: “استندت إلى جذع روحي وهذا الهواء الهرم/ قلت: فلتعصف الريح/ ما شاء للريح هذا العدم/ فما أنا لحم.. وما أنا دم/…كيف تكون القبور لنا والحياة لهم؟!/ وكيف يكون المحقق يا سادتي عربياً/ ونحن العجم؟!”.

     وفي “حوارية الصديقين” رسم نصرالله, الحلم والأمل, وهدأة البحر, واكتمال الورد, وغبطة الطفولة, ويقول فيها: “لم تكن صدفة أن ترى الشمس قاماتنا/ لم تكن صدفة أن يلامسنا البحر..هذا الهواء/ أو يعبر النهر شباكنا خلسة في المساء/ لم تكن صدفة أن نغني ونحلم/ أو تجمع الأرض أحلامنا/ لم تكن صدفة أن نسير إلى الشجر الأخضر الآن/ مشتبكين بهذا العناق/ لم تكن صدفة أن نواصل هذي الحياة”.

     إنّ التعابير البلاغية والصور الشعرية التي اعتمدها نصرالله في قصائده النثرية, منحت نصوصه حيوية أضفت جواً شاعرياً متناغما, ابتعد عن الزخرفة والتنميق, وفي الوقت نفسه أرسل العديد من الرسائل المباشرة والمبطنة, كما أثار جملة من الانفعالات الإنسانية  المدعّمة بمواقفه الفكرية, ومشاهداته الشخصية, ومعاصرته للحقوق المسلوبة والحريات المنتهكة, بفعل سياسات الساسة ومصالحهم. وكل ما سبق أوجزه في كلمات قصيدة “حلم الجنرال” وهو يخاطب العسكري: “أيها العسكري/ حلمت بدبابة تتمرغ كالكلب قربي/ فرقّ لها/ وهو دوماً يرقُّ/ ويخضرّ قلبي/ ولما تصاعد ضوء النهار/ تذكرت ربي/ فأطعمتها فرحاً نصف شعبي!!”.

منى الشرافي تيم

الرجاء ترك تعليق