عبداللة ثابت يفتح ملفات المجهول

     يحاكي الكاتب السعودي, عبدالله ثابت في روايته “وجه النائم” الصادرة عن دار الساقي, تلك الغمامة الجالسة في المجهول, ويبثها ما يجول في داخله الجنين, بأسلوب فريد من التخيل الروائي, فهي ليست ككل الروايات, بل هي مجموعة رؤى فلسفية وجودية وغيبية, تتماهى في عوالم الحلم وتتناغم مع الخيال على شكل كيانات متصارعة ومنفصلة عن الواقع, وغارقة في الماورائيات, ومتعطشة إلى ذلك المجهول الذي تشعر به ولكنها لا تعرفه ولا تدركه. حاول عبدالله ثابت أن يرسم معالم روايته بخطوط الألم والمعاناة, معتمداً نهج الفرار من عالم الحقيقة من خلال ما رواه غسان, الشخصية الرئيسية في الرواية, حين عاد بذكرياته الافتراضية إلى ذلك المكان الدافئ الآمن الذي سبح فيه بسائل المحبة في رحم أمه؛ وكان بالنسبة إليه الجنة التي كره مغادرتها إلى جحيم العالم “وما أكبره حظ إخواني الأجنة الذين ماتوا قبل الولادة أو أجهضوا”. ووصف غسان قسوة القدر,التي جمعت بين الموت والحياة, وشكلت بأسلوبها الخاص نهاية البداية, التي رسمت مسار حياته وشخصيته فيما بعد, ففي اللحظة نفسها التي أطلّ بها إلى الحياة, غادرتها أمه “إن أمي هي عالمي, هي كلّ عالمي, أمي حبيبتي”, حتى اسمه “غسان” لم يكن اسمه, بل كان اسم أخيه الذي لم يعش سوى سبعة أشهر في بطن أمه وسبعة اشهر خارجها, وتمّ اختياره بالقرعة التي أجراها والده من بين ثلاثة أسماء. ولهذه الأسباب مجتمعة, خاطب المجهول قائلاً: “من تلك اللحظة أيتها المتربعة في المجهول..وأنا الجنين, والطفل, والشاب, والرجل, ومجهولك: غسان!”.

     رواية “وجه النائم” مقسمة إلى أجزاء متفاوتة في أحجامها وأشكالها, وتتقاطع أحداثها بين ما يرويه غسان وبين ما ترويه ماريا, تلك المرأة من المجهول. بالإضافة إلى سرد “المنامات” التي سُجلت أحداثها بتواريخ غير متسلسلة. وقد عمد عبدالله ثابت إلى تصوير قوى الشر المتأصلة في النفس البشرية من خلال الصفعة الأولى التي تلقاها غسان حين كان في العاشرة من عمره التي اضطرته إلى شتم والدته بتأثير الضرب المبرح الذي تعرض له من قبل زملائه, وهو الذي كبر متيقناً أن الذي يكبر بعيداً عن أمه سيفتش عنها بين سائر النساء. تلك الحادثة جعلته ينزوي ويُؤثِر الصمت الذي حيّر والده. والصفعة الثانية التي تلقاها, كانت حين حضر بالصدفة إعداماً في إحدى الساحات, فأفقدته تلك اللحظة حتى الإحساس بالرهبة والخوف. وتوالي الصفعات التي تلقاها غسان؛ حرمته الطمأنينة وأفشلت زواجه الذي لم يدم إلا أياماً قليلة, وجعلته يخرج إلى ما وراء الحدود الإنسانية ويتساءل عن أسرار الغيب وغوامض الوجود وخصوصاً فيما يتعلق بالألم والمعاناة… وشعوره الدائم أنه موجود في مكان ليس مكانه وزمان ليس زمانه, وانتماؤه إلى عالم آخر جعله يهرب من السعودية إلى جبال لبنان خصوصاً المتن الشمالي, الذي كان يقضي فيه خمسة أيام من كل شهر. ذلك المكان الذي وجد فيه غسان ضالته وعالمه وأشجاره ونواياه وأحلامه. كان ينام في النهار ويسهر في الليل ويخرج قبيل طلوع الفجر, يتنقل من حرج إلى حرج ومن طلعة إلى أخرى ولا يعود قبل التاسعة صباحاً. وفي أحد تلك الأيام صادف غسان المجهول والغيب الذي كان يبحث عنه في ذلك البيت المهجور, فوقف أمامه وشعر بالتآلف بينهما وكأنهما كانا على موعد قديم, فتحركت له مشاعره وغمرته السعادة والنشوة من هذا الغيب الذي انهال على صدره دفعة واحدة, ثم غادر البيت المهجور, وعاد إليه في اليوم التالي وحفر في إحدى زوايا فنائه,  كهفاً صغيراً بحجم صندوق صغير, وأودعه لفافتين من القماش معقودتين بدقة, ثم أقفل فتحة الكهف بصفيحة حجرية.

     فرّ عبدالله ثابت من خلال غسان إلى مرتع الغيب وبثه تعبه الروحي والنفسي, فلطالما نمت لديه الاستعدادات الذهنية والعاطفية لسماع أصوات بعيدة لم يألفها ولكن صداها بقي يتردد في ذهنه, بالإضافة إلى شعوره الدائم بوجود أشخاص قريبون من روحه لا يعرفهم…ومن هذه الفكرة ومن غياهب المجهول تتسلل إلى أحداث الرواية روح ماريا المعذبة فتوغل في روح غسان مخترقة عوالمه وأسراره, من خلال لفائفه التي كان يدفنها في كهفه السري في كل مرة يزور فيها بيروت, بعد أن يُوْدعها أحاسيسه ومشاعره وقلقه واضطرابه وفلسفته وتعطشه للحب. أرق ماريا وقلقها في تلك الليلة, جعلها تفتح جهاز الكمبيوتر وتدخل إلى أحد المنتديات على الإنترنت, فوقع نظرها على عنوان من كلمتين: “كتابة النائم”, فقرأت منام النائم بانفعال وشعرت أن صاحبه سرق أفكارها…أطفأت الجهاز بعد أن تسلل إلى جوفها إحساس غريب وحلو في الوقت نفسه, ثم توجهت إلى شرفة غرفتها, فلمحت غريباً يتجه نحو البيت المهجور المجاور لبيتها, ذلك الغريب الذي انحني وحرك صفيحة صخرية وأخرج من جيبه أشياء لم تميزها ووضعها في الحفرة ثم أعاد كل شيء كما كان وغادر. وبعد الكثير من الخوف والشك والتردد اقتحمت ماريا لفائف غسان, فوجدت في كل لفافة ورقة سطورها مكتوبة بالحبر الأسود… قرأت الورقة الأولى فشعرت أنه كتب عنها وعن قريتها وجبلها, ثم فتحت الورقة الثانية التي تتكلم عن الهزيمة, وبعد أن أنهت قراءتها وضعت يدها على قلبها, فتحسست هزيمته وقالت: “لا يكتب هذا الغريب إلا لي, ما أغربها هدية الله هذه لي”. وحين أنهت قراءة كل اللفائف شعرت بأن روحها تكاد تطير من جنبيها بفعل الأحاسيس التي ملأت قلبها وتلك الحياة العجيبه والحلوة التي اكتشفت بداية خيوطها…! عشق غسان روح تلك المجهولة التي قادته لدفن وريقاته في كهف مجهول من صنع يديه, تلك المجهولة التي شعر بها ولم يرها….وعشقت ماريا ذلك الغريب الذي عرفته وقررت أن لا تلتقيه كي لا تخسره كما خسرت صاحب عنوان “كتابة النائم” بعد أن تواصلت معه…وكثيرة هي اللحظات التي تراود إلى ذهنها فيها أن صاحب اللفائف قد يكون هو نفسه النائم….!!

     أقل ما يمكن أن يقال عن رواية “وجه النائم” أنها عالم مستقل بذاته, ومختلف بشخوصه ومشاعره ورؤاه. وقد ظهرت نزعة عبدالله ثابت التي تنتمي إلى المذهب الرومانتيكي جلية, من خلال فكره وحواسه ولغته, فقد ترك نفسه على سجيتها سواء عن طريق تأملاته وتصوراته أو خيالاته, وعلى وجه الخصوص إيمانه بأسرار الغيب. فحوّل الفجر إلى مخلوق سبق بِصَمْته ضوء الشمس الخارق. كما صوّر الحركة والصوت واللون والانفعال, واستطاع أن يصل بلغته الشعرية القوية والسلسة والغير مصطنعة إلى عميق الأحاسيس, بحيث يشعر القارئ بألمه ومعاناته, فيعبر قائلاً: “ها أنا أمشي على قارعة التيه, يداي مخبأتان في قلبي, ورجلاي مليئتان بالحنظل والشوك…”, وجزم أنه ينتمي إلى كوكب الأرض وطريقه “باهتة اللون والوقت, لا أعرف أين بدأت ولا أين ستنتهي, وأنا على قارعتها, على قارعة المجهول…والملايين تقضي أعمارها فيه!”. وختم عبدالله روايته بتنبيهين أحدهما ليلي: “اغرس قلبك في جذع شجرة, لكن لا تثق بظلها, والآخر أزلي: “لا تجلس في ظل شجرة لا تعرف الطريق إليها مرتين”!!

                                                                         منى الشرافي تيم

الرجاء ترك تعليق

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s