من الشرارة إلى النار إلى الدولة البديلة
إن الاضطرابات والأحداث التي شهدتها تونس مؤخراً, من خلال لجوء أبنائها إلى الشوارع في حركات احتجاجية رافضة ومنددة بالسياسات القمعية, التي مارسها النظام الحاكم في حقهم, بالإضافة إلى التردي الاقتصادي, ونقص الحريات, وتزايد معدلات البطالة, وارتفاع الأسعار, كل هذا أدّى إلى اندلاع تلك الثورة الشعبية الغاضبة, التي تمكنت من الإطاحة بنظام زين العابدين بن علي. وعلى ضوء هذه التطورات المتسارعة, صدر للباحث والكاتب التونسي توفيق المديني كتاب حمل عنوان “سقوط الدولة البوليسية في تونس” عن الدار العربية للعلوم, الذي أضاء فيه شرارة الثورة التونسية التي انطلقت من محافظة “سيدي بوزيد” حين أقدم الشاب محمد بوعزيري على أشعال النار في جسده أمام مقر الولاية. ذلك الشاب الذي تملّكه اليأس والإحباط, فكتب إلى والدته على موقع “الفيسبوك” مودعاً: “مسافر يا أمي, سامحيني. ما يفيد ملام, ضايع في طريق ما هو بإيديا…لومي على الزمان ما تلومي عليّ, رايح من غير رجوع…ما عاد يفيد ملام على زمان غدار…”. كما أكّد المديني أن الثورة التونسية الشعبية المدنية, التي لم تحركها أحزاب أو حركات أيدلوجية تقليدية, قد أظهرت خطأ نظرية أن الثورة الاجتماعية والسياسية العربية ترقد في مقبرة التاريخ. فرسمت الثورة مساراً جديداً, وضع حداً للخضوع والإذعان, وأحيت آمال الشعوب العربية في التطلع إلى غدٍ أفضل, وصدّرت إلى الواجهة, أجيالاً شبابية واعدة قادرة على إيصال أصواتها؛ أجيال رافضة للأنظمة الاستبدادية التي فرضت سياسة الغد القاتم, وأنكرت أبسط الحقوق الإنسانية الأساسية للمواطنة في حرية التعبير والحق في تقرير المصير.
فصّل المديني في كتابه, المراحل الدقيقة في تاريخ تونس منذ عهد بو رقيبة, الذي كان يعتبر نفسه الزعيم الأوحد, وقيامه مقام القوة الإلهية, وصولاً إلى عملية انتقال السلطة إلى بن علي. كما عمد المديني إلى إطلاق اسم “الدولة البوليسية” على دولة تونس في ظل نظام بن علي, التي قامت على أساس قوة البطش العاري, وزرع الرعب في النفوس, والإرهاب المنظم ضد المواطنين تحت عنوان “هيبة الدولة” بدلاً من شرعية الوطن والقانون والحرية, واصفاً سياسة الاستبعاد والإقصاء التي اتبعتها الدولة المخابراتية من خلال استلاب قوتها واستقرارها ودوامها من عامل الخوف لا الشرعية, تلك الدولة التي تعاملت مع الأصولية الإسلامية على أنها عدوة المجتمع المدني وحاربتها بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة, وقد حرصت إلى حشد اليساريين والليبراليين من النافذين العلمانيين في صفوفها, كما سارت على نهج تفتيت الجماهير, وتصفية النقابات العمالية والطلابية, وفرض سياسة العزل والصمت, وتفعيل نظام الاعتقال والتعذيب ونشر الرعب, فقد كان بإمكان رجال الشرطة والبوليس السياسي إساءة استعمال السلطة بلا خوف من العقاب, كما كان بإمكانهم القبض على الذين لا يحبونهم واعتقالهم بتهم تافهة والإفراط في استعمال القوة والتعذيب في حقهم, كل هذا أدى إلى خنوع وخضوع الشعب التونسي الذي عاش حياة من اللامبالاة وتقطيع الوقت.
اعتمد المديني في التقديم لبعض فصول كتابه على مقاطع من أقوال كتّاب مشاهير, قد يكون هدفه منها, تدعيم مواضيعه ومنحها مصداقية وبعداً فكرياً واسعاً, فمن كتاب “الحرية الأولى” للمحامي الأمريكي “موريس ل” اختار فقرة تعالج حرية الصحافة: “لا تتحقق للجمهور الحرية التي نعرف إلا إذا سمع وجهات نظر متعددة مما يتيح له الاختيار في ما بينها. وهذا هو جوهر الحرية”. فالإعلام عند المديني هو مرآة العصر الزاخر بالثورة المعلوماتية والتقدم التكنولوجي والفضائيات, وكل هذا يعمل على تشكيل نظام عالمي للاتصالات, من شأنها تغطية وتسجيل ونقل كل ما يحصل من أحداث على المستوى العالمي. ومن هذا المدخل الإعلامي أضاء المديني سياسة الحجر الإعلامي التي اعتمدها نظام بن علي في تونس, فقد اتهم هذا النظام معارضيه بالخيانة والتآمر, وحجز الإعلاميين, وسجن الصحافيين, واحتكر أجهزة الإعلام من خلال نشر الأكاذيب وإذاعتها, والتركيز على الرأي الواحد عن طريق خنق التعددية الإعلامية واستئصال الثقافة. وكل هذا يهدف إلى غياب الرأي والرأي الآخر في التفاعل مع القضايا الوطنية, بالإضافة إلى محاولات إيهام الناس بالدور الفاعل للدولة, من خلال إظهار الفروقات بين واقع تونس المحصن بفضل سيادة الأسلوب الأمني, وبين البلدان المجاورة التي تنهشها الحروب الطائفية, مع التركيز على التهويل بفزاعة الخطر الأصولي الذي يهدد مستقبل الدولة وأبنائها.
وفسّر المديني في الفصل الثامن واقع الفساد الاقتصادي في تونس, الذي تحول إلى مؤسسة من الصعب اختراقها,لأنها تحولت مع الزمن إلى قلعة لها أبراجها وأسوارها وخنادقها. وهذا الواقع فرضه سلوك الدولة البوليسية, التي مارست الاحتكار الأعمى لمصادر الثروة من خلال عقد الصفقات, وقبض العمولات, والحصول على القروض بلا ضمانات, من دون إغفال دور العائلات السبع التي مارست سياسة النهب المنظم لخيرات تونس, بالإضافة إلى حزب التجمع الدستوري الديمقراطي…ولكن حصل في تونس ما ليس بالحسبان, فقد أدّت سياسة الإرهاب البوليسي التي تبنت خيار قمع الحريات, وتمادت في النهب والفساد, وحطمت القيم الإنسانية, وخلقت حالات من الاحتقان الاجتماعي, إلى اندلاع ثورة شعبية وشبابية من طلاب الجامعات والخريجين الجامعيين العاطلين عن العمل, بسبب البطالة الضاغطة التي يعاني منها الآلاف من الشباب ذوي المؤهلات العلمية, وشكلت شبكة الإنترنت الفضاء والملاذ الوحيد لحريتهم, حيث وظفوا ثورة وسائل الاتصالات الحديثة, في عملية التعبئة والحشد للمظاهرات التي عمّت معظم المدن التونسية بعد انتشار خبر وفاة الشاب محمد بوعزيري, وبمساندة الجيش لهذه الثورة الشعبية؛ اضطر بن علي إلى الفرار من البلاد من دون الإعلان الرسمي عن تخليه عن الحكم في يوم 14 من كانون الثاني 2011. وبذلك تمكنت الثورة التونسية الشعبية ولأول مرة في تاريخ العرب المعاصر من الإطاحة بنظام حكم بوليسي يُعدّ من أعتى الديكتاتوريات الأمنية العربية. وعلى ضوء انهيار نظام بن علي, نقل لنا توفيق المديني رأي “نيال فرغسون” أستاذ التاريخ في جامعة هارفرد الذي كتب مقالاً بعنوان “التعقيد والانهيار” حول كيفية انهيار النظم السياسية الشمولية, التي تبدأ عندما يحصل عدم توازن بين الإنفاق والإيرادات للدولة مما يؤدي في البداية إلى عجز مالي, ومن ثم خلل في إدارة الدولة, بالإضافة إلى فقدان القائمين على النظام مقدرتهم على إصلاح هذا الخلل…! ولم يكتف المديني بعرض المفاصل التاريخية الهامة لتونس, واندلاع الثورة الشعبية التونسية وإطاحتها بنظام بن علي فحسب, بل عرض رؤيته لكيفية بناء نظام ديمقراطي جديد, يتمثل بعدم الاكتفاء بسقوط الدولة البوليسية فحسب, بل العمل على تقديم تصور حديث لعملية الانتقال إلى بناء ديمقراطي, لا يسمح بإعادة إنتاج نظام استبدادي جديد, فالخروج من عالم الاستبداد يقتضي تحولاً جذرياً في الوعي والممارسة من خلال التأكيد على انبثاق دولة الحق والقانون, انطلاقاً من مبدأ سيادة الشعب ومن كونه مصدر المشروعية السياسية, وضمان الحقوق المدنية والحريات الدستورية والاعتراف بحرية الفرد وحقوق الإنسان في حدود الدستور والقانون, والاعتراف بمشروعية الاختلاف….!
منى الشرافي تيم