تصدى الكاتب الأردني إبراهيم نصرالله في روايته “شرفة العار” الصادرة عن الدار العربية للعلوم, إلى الإرث الجاهلي القديم وهو الجرائم, التي تُرتكب تحت شعار الدفاع عن الشرف, والتي يُحجم عن معالجتها الكتّاب والصحافيون, وذلك لرهبتهم وتخوفهم من تبعات ردات الفعل عليهم, فهي واحدة من الموضوعات الاجتماعية العربية التي ما زالت قائمة, وتشير إلى التخلف الذي يعيق حركة المجتمع وتطوره؛ وهي قضية خطيرة, لها جذور عميقة تنافي مبادئ العدالة الإنسانية, وتعتبر من أكثر القضايا المثيرة للجدل في مجتمعاتنا العربية. ويؤكد نصرالله على تفشي ظاهرة العنف ضد المرأة,التي ما زالت من وجهة نظر العالم الذكوري الشرقي, تحمل خطيئة البشرية. إنه عالم يلعب فيه الرجل دور الحاكم والجلاد وينفذ بيديه الحكم, مما يشكل انتهاكاً صارخاً لحقوق المرأة, التي تشكل الحلقة الأضعف في هذه القضية؛ فهي لا تمتلك قوة الردع أو الدفاع عن نفسها في مجتمع ثقافته ذكورية, يملك فيه الرجل النساء في أسرته. والمساس بعفة هؤلاء النسوة وشرفهن, هو مساس بشرف الأسرة. فهو المسؤول عن سلوك الفتاة أو المرأة الأخلاقي, ومن حقه قتلها حفظاً لشرفه.
الأب أبو أمين في شرفة العار, كان يشعر أن البيت الذي لا توجد فيه فتاة هو بيت فارغ لا معنى له, فكان يوم مولد ابنته منار أجمل أيام حياته. كانت منار تشبه اليابانيات في جمالها. أصرّ أبو أمين على أن يعلّمها…وكان سعيدا بها, وأقسم قائلاً: “سأزفك كعروس, وأرقص يوم نجاحك على رموش عيني”, وكان يعقد الأمل عليها, فلم تكن في نظره ككل البنات. أما شقيقه, العم أبو سالم, فقد كان منزعجاً من الطريقة التي يعامل بها أخوه ابنته, وكان يردد: ” سنرى آخر الدلال هذا, يا أبو أمين…يا متعلم”. وطلب أبو سالم يد منار لابنه قبل أن تفسد أخلاقها؛ واستشاط غضباً حين رفض والدها طلبه وأصرّ على أن تكمل تعليمها الجامعي. كان أبو أمين يعمل سائق تاكسي, ويحرص على أن يوصل منار كل يوم إلى بوابة الجامعة ويتابعها بفخر, حيث كانت تدرس علم الاجتماع. ولكن في نهاية السنة الجامعية الثالثة, خانته قدماه وعموده الفقري, فأصبح عاجزاً عن القيام بعمله كسائق تاكسي. كانت خشية أبي أمين على منار: كيف ستذهب إلى الجامعة وتعود وحدها؟ كان يخشى عليها من الحر والمطر والأيام الثلجية. وكان لأبي أمين ثلاثة أبناء ذكور أكبرهم أمين, وهو متزوج من نبيله ابنة خاله, وكان شاباً فاشلاً وعاطلاً عن العمل, ُطرد من وظيفته في محطة الوقود بسبب غشه, ولم يقبل أحد أن يوظفه بسبب سمعته السيئة, فقد كان على علاقة سرّيّة بالمطلقة تمام, التي تُعتبر واحدة من أكبر مشكلات الحي. فشل أمين في الحصول على الرخصة العمومية التي تؤهله للعمل على سيارة التاكسي التي يملكها والده, كي يعيل الأسرة التي أصبحت من غير معيل لها, وتمنّع الابن الثاني عبد الرؤوف, الذي تخرّج من معهد الكومبيوتر وسافر للعمل في دبي, عن تقديم المعونة لأسرته, ولم يبعث إليهم فلساً واحدا. وهنا تظهر مرارة الواقع الاقتصادي, وذل الفقر والحاجة. فقد ضاقت أحوال أبي أمين المادية, فقرر أن يسلّم السيارة إلى السائق يونس كي يعمل عليها مقابل أجر, وهو الذي تولّى مهمة ذهاب وإياب منار من جامعتها وإليها.
كانت نبيلة تعلم أن زوجها أمين يخونها مع تمام التي تعيش مع والدتها العاجزة, فقررت مواجهتهما, فشعر أمين أن سرّه قد انكشف. ولكن المفارقة هنا أن العالم كله علم بفضيحة أمين وتمام ولكنهم لم يتكلموا, فهم يؤمنون بأن الرجل لا يعيبه شيء, بمعنى أنه يستطيع أن يمارس علاقاته الجنسية دون أن يعتبر فاسقاً, أو زانياً. ولكي تحفظ نبيلة كرامة الأسرة, تقرر أن تخطب تمام لزوجها. وفي اللحظة التي تمّ فيها زواج أمين بتمام, ذبح السائق يونس شرف منار انتقاما من أمين, الذي استدان منه مبلغاً من المال وأنكره عليه. فأقسم حينئذٍ يونس متوعدا: “سأذكّرك بشيء لا يمكن أن تنساه أبدا”. هنا دفعت منار ثمن فساد أخيها واستهتاره غالياً, وهو الفارس المغوار الذي سيغسل فيما بعد عاره, وسيستعيد في وضح النهار شرفه وشرف الأسرة الذي لطخته منار؟! على مرأى الناس ومسمعهم- في الطرقات وعلى الشرفات- الذين راقبوا عملية غسل الشرف, التي تمت بتدبير من العم أبي سالم, الذي وضع على مدخل البيت راية سوداء, وأقسم أنها لن تنتزع قبل انتزاع روح منار. وكأن حب والدها لها خلق بينه وبينها ثأراً حان وقت سداده. ونفّذ أمين جريمته, فهو يعلم تمام المعرفة أنه سينعم بحكم مخفف, وسيتوّج بطلاً, وسيشعر بالفخر والعزّة, وهو رمز الفساد والرذيلة ولا شرف له.
عجزت منار, وهي المرشدة الاجتماعية, أن تساعد تلميذة عندها, كان أخوها يعتدي عليها, وحين هددته بافتضاح أمره, قتلها بداعي غسل عاره. مفهوم استغله العديد من الناس لسفك الأرواح بدون وجه حق. وكيف تحل منار مشكلة تلميذتها وهي التي كبر عارها في أحشائها, ولم تتمكن من التخلص منه أو إخفائه؛, فالخوف من الفضيحة وهاجسها في الحفاظ على شرفها, اضطرها إلى الصمت, ولم تجرؤ أن تبوح لأحد أنها تعرضت لاغتصابٍ وحشي استباحها نفسيا وجسديا. وجرائم كهذه يحميها القانون ولا يحرك فيها ساكنا. لقد وصف نصرالله قسوة الاغتصاب ببراعة, وصوّر لحظات الألم والقهر والخوف التي عاشتها منار, حين انتهى بها الحال في السجن مع مجرمات خطيرات, تحت عنوان الحجز الوقائي. وتمكّن نصرالله من إيصال تجربة منار المريرة إلى أعماق القارئ وتحريك أحاسيسه ومشاعره وإشعال ثورته وغضبه وحنقه, بسبب اتساع ظاهرة العنف ضد المرأة, والظلم الاجتماعي, الذي يصفق للقاتل ويسيء إلى الضحية, مؤكداً الجو المرعب الذي أثاره ما حصل لمنار, بين أفراد المجتمع, وآثاره النفسية التي تبقى تطارد بنات جنسها, حين تصبح كل فتاة مشروع عار, وقتل شرف.
نهج نصرالله في التقديم لأقسام روايته, منهج استباق الأحداث, ربما كان يهدف من خلاله إلى رفع وتيرة عنصر التشويق الذي نجح في إبرازه. كما أن تسلسل أحداث الرواية, ومهارة اختيار الألفاظ الصائبة والجمل الملائمة والمعاني العميقة, أعانه على إبراز الحركة والصوت والإثارة والانفعال. وبثّ الحياة في الجماد. وبرع في اختيار الصور التي منحت النص الروائي جمالية مميزة: “التفتت لوجه نبيلة, كان شاحباً كالموت, جسدها في مكان وروحها في مكان آخر, جافّة كحطبة وساهمة كضياع”. وامتازت تشبيهاته بقدرتها على التقاط الصور وتقريب المتباعد, فيتداخل المشبه بالمشبه به كأنه وحدة واحدة: “عيناه جامدتان كحجرين بركانيين أسودين, أصابعه متصلّبة حول يدي كرسيه كما لو أنه ميت”. وأبدع نصرالله في تصوير قسوة لحظات اغتيال منار إلى درجة أشعرت القارئ بثقل ظلال الحدث وكأنه كان على مرأى منه: “الظلال تحولت إلى تماثيل, والعيون المحدّقة فيه إلى بحيرات من جليد, أما صرخات أمه فقد كانت تذرع الفضاء كطيور بلا أجنحة”.
كتبت منار في رسالتها الوداعية لوالديها: “إن كل شيء قد حدث رغماً عني, وإنني لو خُيرت بين الموت وبين الإساءة لكم لاخترت الموت دون تردد”.
منى الشرافي تيم