بدأت رحلتي مع ميّ زيادة، رحلة قارئة هاوية، يلذّها الأدب النسائي الرقيق، الذي يتسلل إلى أعماق النفس، فيجعلها شغوفة بمتعة التذوّق والمعرفة. غير أنّني ما لبثت أن وجدت نفسي، أطمح إلى التوغّل العميق راغبةً في معرفة هذه الشخصية الأدبية الفذّة، ووجدت أن هذا الأمر لا يتحقق، إلا من خلال دراسة عملية جادّة.
كان لمي زيادة إنتاج أدبيّ وفير، متعدّد الأنواع والأغراض، ذو ظلال بعيدة المدى في دنيا الأدب، غنيّ بالمواضيع الكثيرة التي كان عصرها يموج بها. وقد اعتبرت مي، لغناها الفكري وعطائها الأدبي، إحدى شهيرات عصرها في الكتابة والنقد والخطابة، فقد قدّمت للأدب العربي أعمالاً أدبية قيّمة، في مجالات المقالة، والخطابة، والمحاضرة، والرسالة، والكتب النقديّة.
وقد حفلت صحافة عصرها ووسائله الإعلامية، بصور مشرقة من نتاجها الأدبي ونشاطها الاجتماعي، ونالت قصب السّبق في أحاديث كبار الأدباء والشعراء، عن أدبها ومجالسها الأدبية وإسهاماتها الفكريّة وآرائها المتنوّعة في كثير من قضايا العصر، مُبدين مواقفهم النقديّة، ومقوّين ذلك كله بروح المسؤولية الأدبية.
ولمست، خلال اطّلاعي على مؤلّفاتها الأدبية، إسهامها الواسع المدى في الحركة الأدبية العربية في لبنان وخارجه.
ولادتها ونشأتها
طرحت ميّ زيادة مشكلة نشأتها على الشكل التالي: “ولدت في بلد، وأبي من بلد، وأميّ من بلد، وأشباح نفسي تنتقل من بلد إلى بلد، فلأي هذه البلدان أنتمي؟ وعن أي هذه البلدان أدافع.
ولدت ميّ زيادة في مدينة الناصرة في فلسطين في الحادي عشر من شباط سنة 1886م. كان أبوها “إلياس زخور سعادة” مارونيا لبنانياً من قرية شحتول في كسروان وسط لبنان. وقد ولد عام 1858م. وتعلم في مدرسة الحكمة في بيروت، لكنه هاجر عام 1879م إلى الناصرة في فلسطين، ليعلّم في إحدى مدارسها الابتدائية، فتعرف إلى أمها نزهة خليل معمر” وهي مسيحية من الروم الأرثدوكس.
تلقت ميّ زيادة الدروس الإبتدائية، وتعلّمت الموسيقى واللغتين الفرنسية والإيطالية عند راهبات اليوسفيات في الناصرة إلى أن بلغت الثالثة عشرة من عمرها، ثم توجهت إلى لبنان في صيف 1899م بصحبة والديها للتعرف إلى أهلها فيه، ولإتمام دراستها عند راهبات الزيارة في فرع مدرسة “عينطورة”. وبعد تخرجها عادت إلى الناصرة, فمكثت فيها ثلاث سنوات قبل أن تنتقل إلى مصر, وهناك بدأ نجمها يسطع في عالم الأدب والاجتماع.
أتاحت ظروف النشأة والبيئة لميّ زيادة, فرصة الاحتكاك والتطور والانفتاح على العالم الأدبي في عصرها. فاجتمعت بذوي الفكر والأدب, فشجعوها ووقفوا إلى جانبها وأشادوا بأدبها ومقدرتها.
كانت ميّ أبيّة النفس واسعة الإدراك, عميقة الفهم, ولكن قلبها كان يتوقّد ألماً, فقد فقدت أخاها في طفولتها ووالديها في صباها.
أعرضت ميّ زيادة عن الزواج, فقد كانت تجد لكل خاطب علّة لرفضه, وذلك لأسباب أبرزها: تعلّقها بجبران خليل جبران…نشأ الحب بينها وبين جبران منذ بداية تعارفهما بالمراسلة, وكان حباً نادراً استمرّ تسعة عشر عاماً, وظهرت آثاره في كتاباتهما.
امتازت مي بمجلسها الأدبي الذي دام عشرين عاماً واستقبلت فيه شخصيات كثيرة جُلّهم من رجال الفكر والعلم والأدب. كان لمجلس ميّ زيادة تأثير قوي في الحياة الأدبية والفكرية، فقد نوقشت فيه مسائل شتى في العلم والأدب والفلسفة، وشارك فيها عدد من الشخصيات اللامعة البارزة في ميادين الحياة المختلفة وخصوصاً الأدبية والفكرية، وسجل لهم التاريخ علامات مهمّة دلت عليهم.
دراسات ميّ زيادة النقدية:
تناولت ميّ زيادة في دراستها النقدية كلاً من باحثة البادية، (ملك حفني ناصف)، ووردة اليازجي وعائشة التيمورية، وتعرضت في هذه الدراسات إلى العصر الذي عاشت فيه هذه الشخصيات، وحللت أدبهن تحليلاً أدبياً واجتماعياً ونفسياً.
وقد اختارت ميّ زيادة هذه الشخصيات النسائية الأدبية دون سواها من اللواتي عاصرنها أو سبقنها، لما تحمله من تقدير وعرفان لجهودهن، حين سجلن في عالم الأدب علامة مميزة في وقت كانت فيه المرأة العربية محجوبة وبعيدة عن الأنظار. فوجدت أن لهن عليها الحق في استكشاف طبيعة المرأة الشرقية لإبراز جوهرها ومكوناتها الخفية إلى الوجود.
الأنواع الأدبية التي عالجتها ميّ زيادة:
عالجت ميّ زيادة كثيراً من الموضوعات الأدبية، كالمقالة والخطابة والمحاضرة والرسائل، وتميزت هذه الموضوعات بالاتّساع والتنوع والإضافات، مستندة إلى ثقافة وفكر واسعين، وقد دلّ كل ذلك على مقدرة ميّ زيادة ووعيها ومواكبتها كل جديد.
البعد الاجتماعي في أدب ميّ زيادة:
سخّرت ميّ زيادة قلمها وأدبها لمعالجة القضايا الاجتماعية من خلال نزعتها الإصلاحية، التي تميزت بإيمانها الكبير بالمرأة وقدرتها على تحقيق ذاتها وترقية نفسها في الحركة الاجتماعية الدائبة حولها. وتنكّرت ميّ للأفكار التي أنقصت من منزلة المرأة، وأشادت بفضل من وقف وراءها ودعمها. وواجهتها بحقوقها وواجباتها.
مذهب مي زيادة الأدبي:
إن القارئ والباحث في أدب ميّ زيادة لا بد أن يشعر بالنزعة الرومانتيكية الطاغية عليه، وصفاً ومضموناً ومزاجاً، فقد مجدت الألم، وتغنت به، وناجت الطبيعة ،وهامت بها، وفرّت من الواقع إلى عالم الخيال، وشغفت بالشرق، ولامت المجتمع، واتهمته بالتقصير بواجباته تجاه الفرد، وضاقت بطبيعة الشر المتأصلة في الإنسان، وآمنت بالقوى الخفية وراء هذا العالم، وكان الأدب عندها وحياً وإلهاماً وقوى خارجية مساعدة تساعد على الخلق والإبداع. وخشيت الحب وقدسته، وتجاوزت حدود عاطفتها الفردية فهزها بكاء الطفل، وذرفت دمعة على المغرد الصامت. ويمكن تفصيل أبرز المبادئ الرومانتيكية التي اتسم بها أدب ميّ كالآتي: الألم، الطبيعة، الخيال، التعاطف مع المجتمع، النفور من الشر، الإيمان بأسرار الغيب، الحب.
مأساتها
كانت مي زيادة يقظة الشعور, أعطت الكثير من نفسها وذاتها, فواجهت الفشل والحرمان. ولعلّ رحلتها الأدبية ملأت فراغها في مقتبل عمرها, إلا أن هذه الرحلة لم تجلب لها الاستمرار والهدوء حين تقدم بها العمر. وتوالت عليها الكوارث والمصائب حين فقدت والديها وحب حياتها جبران. وزاد من تشاؤمها واضطراب نفسها مطالبة أبناء عمها مشاركتها إرثها من والديها, وعندما صدّتهم هددوها بالانتقام. فاستسلمت للعزلة وركنت إلى الوحدة الموحشة وأهملت ذاتها. وفي ذروة اضطرابها النفسي التجأت إلى ابن عمها الدكتور جوزيف الذي طلب منها العودة معه إلى لبنان, فأوصلها إلى العصفورية.
قضت مي زيادة في العصفورية مدة سنة, إلى أن تم إنقاذها بسعي بعض الأصدقاء. وعندما عادت إلى مصر, رفضت استقبال الناس والتحدث إليهم لإحساسها بأنهم يعتقدون بجنونها. وكانت ترفض أن يُذكر أمامها اسم أحد من زملائها وأصدقائها ورواد مجلسها الذين أهملوها في مأساتها.
كانت أيام مي زيادة الأخيرة عراكاً مع اليأس, فأضربت عن الطعام واشتهت الموت إلى أن وافتها المنية في التاسع عشر من شهر تشرين الأول عام 1941. وهكذا ماتت ميّ زيادة وحيدة في غربتها عن لبنان، وهي في الخامسة والخمسين من عمرها، ودفنت في مدافن الطائفة المارونية في القاهرة القديمة، وأقيم لها حفل تأبين يليق بمقامها.
منى الشرافي تيم
بدي مقالة عن مي زياد رجاءً