رفيق الإنسانية… رجالات في رجل وانتصارات في موقف
قصةُ سلامٍ وعطرُ سيرة عتّقها الزمان. وشدو صرح بصمته الغائر صادح. جوهره قصيد في العتمة أضاء الشموس، وفي الظلام شق أنفاقاً للمستقبل ورسم الآمال لشبيبة كانت قبله حائرة البال. أبٌ روحيٌّ بيد بيضاء ماسية حريرية الملمس مزدانة بالطِيْب؛ رطبت النفوس وبلسمت الجراح! هو لمحبيه مشكاة نور وتكبيرة صلاة، أما لأعدائه فحَرٌّ وجمر ونار. هي حكاية مقاوم ارتدت سترة المغيب في غير أوانها؛ بفعل أياد خبيثة مسمومة بالحقد وملوثة بالغدر جذّفت فوق أمواج الظلام، واستعانت بأشباح الليل، وتسلحت ببارود الطغيان في يوم الحب المشهود بالحب. نعق الغراب في فضائه، فسكنت السماء لنحيب الأبواب، وهدأت أصداف البحر لعويل النوافذ، وصُمّت الآذان من بكاء الحجر وأنين الأشجار. أما القلوب فتداعت من حرِّ اللوعة والفراق… ففقدانه كان أمراً جللاً بدّد حلم الأجيال. هي يد الشر امتدت فأقفلت نبعاً مجراه لغزاً أرَّقهم، فارتوت الأرض بدماء رفيق الإنسانية، وتنعّم التراب برحيق روحه الأبية.
اغتالوه نعم! إلا أنه لم يمت، فذكراه نبع لا يجف ولا ينضب.
اليوم وبعد مرور ثمانية عشر عاماً على الجريمة الإرهابية التي استهدفت الرئيس رفيق الحريري لا بدّ أن نتوقف عند عتباتها وتبعاتها وأهدافها، لنجد أنفسنا في مواجهة جريمة أكبر وهي اغتيال وطن حرص الشهيد على مصالحه في الداخل وهيبته في الخارج. ها هو لبنان الرفيق الذي كان حريرياً يتحول إلى دكاكين مُذهّبة بالمذهبية، وجحور طائفة بالطائفية، وعقول غيّبتها العنصرية، وجهل وطّنته الغرائزية، وشعب نوّمته التبعية. وأجساد أشعلها وقود الفقر والذل والحاجة. وطن يموج بكلام غير مفهوم، وثرثرة شعارات وفقاعات من الأفواه تملأ الهواء.
من ذا الذي قال إن الحروب بالأسلحة المتقدمة الفتاكة هي التي تحقق الانتصارات الكبرى؟ فأدوات المقاومة السلمية الدبلوماسية أقوى من أسلحة الدمار. هي المرونة التي قد تبدو للبعض تردداً أو تنازلاً أو خوفاً، فيما هي سياسة التفاوض الفعال المنتج. فقد تحقق الحروب أهدافها لمن يملك أدوات القتال المتقدمة في وقت قصير، أما انتصارات الدبلوماسية فمردودها أقوى وأكبر أثراً. ولكن للدبلوماسية فن وأسرار لا يتقنها إلا القادة الكبار، وأمثالهم تعرّفنا إليهم في التاريخ القريب وهو الرئيس رفيق الحريري، وتجلّى ذلك حين ارتكب الاحتلال الإسرائيلي “مجزرة قانا” في شهر نيسان من عام 1996م في قرية قانا بجنوب لبنان، بعدوان “عناقيد الغضب”، فقتلوا العشرات وجرحوا المئات، وقصفوا المدن والبلدات اللبنانية. وحين لجأ مئات اللبنانيين من النساء والأطفال إلى مقر الكتيبة التابعة للأمم المتحدة هرباً من القصف، قام العدو بقصفه مرتكباً بذلك أكبر مجازره وأكثرها قبحاً. وتذرعوا بأنهم لم يكونوا على علم بوجود المدنيين في المقر. وكان بإمكان الصهاينة كما جرت العادة الاستمرار بعدوانهم وتلفيق الأكاذيب واتهام حزب الله بارتكاب المجزرة. إلا أن ما لم يكن في حسبانهم أنهم سوف يواجهون – جيشاً في رجل – فالتاريخ يشهد للمقاوم الأول والقائد الوطني الرئيس رفيق الحريري سعيه لإيقاف العدوان الصهيوني البربري، حين اختار الدفاع عن السيادة الوطنية، واعتبار أن مقاومة الاحتلال حق مقدس للبنانيين حتى تحرير أراضيهم. وكان يعلم أن هدف الصهاينة من العدوان تدمير البنى التحتية اللبنانية. عندئذٍ سكن الطائرة متنقلاً بجولات مكوكية دولية وإقليمية؛ مستخدماَ سلاح الدبلوماسية الفعال المتمثل في عرض الحقائق التاريخية، ومشددا على المواثيق الدولية، ومتسلحاً بخطاب اعتمد فيه تقديم الحجج والبراهين من أجل إقناع الرأي العام وحَصْد تعاطفهم وتأييدهم. كما واستثمر في الإعلام العالمي للكشف عن الوجه القبيح للعدو الغاشم من خلال عرض صور المجزرة وآثار العدوان بكل أشكاله، وكل ذلك أدّى إلى “تفاهم نيسان” الذي تجسد في الاعتراف الدولي والإقليمي بالدولة اللبنانية واستعادة مكانتها.
إن أكبر خسارات لبنان تمثلت في خسارة رجالات في رجل نتمنى أن يتكرر، نسير اليوم على غير هدى، ونواجه شرائع العناد والمكابرة وتحجر المشاعر. نعيش في زمن استفحلت فيه لغة البقاء للأقوى والأفسد.
بانتظار صبح لا بدّ آت… فقطاف الحصرم لا يُنضج العنب!
د. منى الشرافي تيم