نُبحر عبر أحاسيسنا إلى ما وراء ما تراه عيوننا في لحظات من التأمل، فتتراءى لنا الصور من خلال ظلال عميقة، نفشل في تفسيرها في أوانها، ربما لأننا نفقد صبرنا سريعاً، أو ربما لأننا نخشى بعض الحقائق المتوارية وراء ظلالها، والتي لا يتقبلها واقعنا أو من هم حولنا إن نحن حاولنا الكشف عنها، لأنها قد تكون مريبة ورائحتها ليست عطرة… فنصمت!
إن البعد المرئي للمعاني الفلسفية التي نُغلِّفها بالكلمات في بعض المواقف قد تكون صعبة الفهم لأعزاء على قلوبنا، نخشى على مشاعرهم أن نجرحها بوردة، ويؤلمنا أن نوجع قلوبهم بحقيقة، ذلك البعد المخطوط بحبر عتقته خبرة الأيام، تلك الأيام بمرورها تهبّ عليها الرياح فيتطاير غبارها الكثيف ليملأ المكان، ثم ما تلبث أن تنجلي الصورة، فتراها عيون من نحب بوضوح، دون زيف أو مواربة، فتحدث الصدمة! عندئذٍ ربما نندم ونتمنى لو أننا لم نصمت… ولكننا نعلم أيضاً أن بعض الكلام في غير أوانه من شأنه أن يطيل في عُمر ما تخفيه النفوس.
نحن نعيش في عالم كبير بين أناس بشخصيات مختلفة، كل شخصية تتمتع بملامح وتعابير خاصة بها، وتتمايز في أحلامها وأمالها، وتتغاير في تطلعاتها ورؤاها، وتتقدم بطموحها ومجهودها…. لذلك علينا أن نحترم كل من شابهنا وتشبّه بنا، ونقبل كل من خالفنا واختلف عنا، ونمدّ يد العون لكل من يطلب منا العون إن كان في مقدورنا، وكل ذلك من أجلنا ومن أجل أن نتمتع بصحة نفسية وإنسانية واجتماعية وأخلاقية سليمة كي نَسعَدُ ونُسعِد! ولكن علينا أن نعترف أن الأمور الحياتية لا تسير دائما في مسارها الصحيح المرسوم لها، فقد يتغير المسار سلباً أو إيجاباً بفعل القدر تغييراً قسرياً بلا حول ولا قوة للإنسان به. وقد يتغير المسار بفعل الإنسان نفسه تغييراً اختياريّاً يكشف عن أخلاقه ونواياه وكل ما يضمره شراً كان أم خيراً.
إن الأقدار بكل وجوهها هي مصير الإنسان، أما الأخلاق فخياره! لأن معنى الأخلاق شامل، فهو المساحة الإنسانية التي يتحرك في فضائها، ففيها قد ينال احترام الآخرين ويحظى بتقديرهم حتى لو لم تحقق له الحياة كل ما يتمناه. وفيها قد يفقد الإنسان كل احترام وتقدير حتى لو حقق كل ما تمناه. ونحن في هذه الحياة التي تشبه الأحجية نحيا بين الناس ومعهم… يؤثرون بنا ونؤثر بهم. فمنهم من يدخل حياتنا ليُكمل ما نَقص فيها، فيُضفي عليها نفحات من جمال ونسائم من بهجة. ومنهم من يدخل إليها كي يعلمنا العبر والدروس التي تُعلِّم فينا كالوشم، خصوصاً أولئك الذين فتحنا لهم قلوبنا ومنحناهم ثقتنا ومحبتنا، فخذلونا؟! وللحظات من صدمة، وبعض من ألم، وخيالات ذكرى من هنا وهناك – نحزن – حين نظن أن خسارتهم هي خسارة فعلية، ولكن ومع مرور الوقت ينقشع ضباب العقل، وتنزاح غيوم العيون، لنكتشف أن خسارتهم ليست خسارة، بل هي هبة من الله، وربح كبير، وخير كثير.
إن المواقف الطارئة هي التي تكشف معادن البشر، فهناك مَنْ معدنه مِن ذهب، وهو الذي يتصرف بمسؤولية دون أن يؤذي أو يجرح أحداً سواء أكانت تلك المواقف الطارئة سلبية أو إيجابية، ويعرف كيف يواجه وماذا يقول وكيف يبرر تصرفاته… هذا النوع من البشر يحافظ على بريقه ويفرض احترامه على من اتفق معه وعلى من خالفه وتخالف معه وتصعب خسارته. وهناك مَنْ معدنه مِن تنك ما يلبث أن يصيبه الصدأ من أول موقف يتعرض له، فيهرب من المواجهة لأنه أناني لا يفكر إلا بنفسه، وانتهازي يستغني عن مَنْ وقف إلى جانبه وساعده حين لم يعد له حاجة به، وهذا النوع من البشر يفقد احترامه وتهتز ثقة كل من حوله به، وخسارته هي الربح الحقيقي في زمن الخسارات.
علينا أن نتوقف قليلاً ونفكر كثيراً عند بعض الخسارات، التي لو لم نخسرها في وقتها وأوانها لعرفنا معنى الخسارات الحقيقية!
د. منى الشرافي تيّم