http://almustaqbal.com/v4/Article.aspx?Type=NP&ArticleID=662010
وفيق غريزي
استقطبت روايات الروائية الجزائرية أحلام مستغانمي الثلاث: «ذاكرة الجسد، فوضى الحواس، وعابر سرير»، اهتمام جمهور واسع متنوع، من القراء، من جميع المستويات الثقافية، واستولدت ردود فعل مختلفة لافتة، كما أثارت حولها جدالاً واسعاً وحركة نقدية ناشطة.
إن التعامل مع هذه الثلاثية، وما اكتنفها من عوامل وظروف، ومواقف وآراء، جعل الصورة الحقيقية لها مغطاة بضباب كثيف، وأفضى إلى اعتبارها قضية مهمة تستحق النظر فيها، والكشف عن حقيقتها، الأمر الذي حدا بمنى الشرافي تيم إلى استكناه أبعاد الثلاثية الإنسانية والاجتماعية والنفسية والفلسفية من جهة، والفنية من جهة أخرى، وذلك بهدف تبين مقوماتها، وتوضيح خصائصها.
التفاعلات النصية
إن من أشكال التفاعل النصي، التي توصل إليها النقاد، هي تقنية التفاعل النصي الذاتي، التي تُظهر كيف تتفاعل بعض نصوص الكاتب نفسه مع بعضها، وذلك من خلال اعتماد الكاتب الأسلوب عينه والمنهج نفسه، وليبني لنفسه من خلالها عوالم خاصة به يعمل على تكرار إنتاجها، ولكن بأشكال مختلفة في كل مرة. والنص المتفاعل أو المتداخل هو نص يتسرّب إلى داخل نص آخر ليجسد المدلولات سواء وعى الكاتب ذلك أم لم يع، وليس «بالإمكان تبني هذه النظرية والبناء عليها، إلا إذا تم تطبيقها على النصوص، التي في الإمكان أن تنطبق عليها هذه التقنية بمعايير مدروسة ودقيقة». وتحاول المؤلفة إلى تبيّن أشكال التفاعل النصي واستنباطها، بين نصوص أحلام مستغانمي في ثلاثيتها، وتتساءل: هل استخدمت أحلام مستغانمي تقنية التفاعل النصي الذاتي من خلال إعادة إنتاج روايتها الأولى «ذاكرة الجسد»، وفي روايتيها الثانية والثالثة: «فوضى الحواس، وعابر سرير«، كي تطبق تقنية جديدة في عالم الرواية؟ أم أنها عمدت إلى استنساخ روايتها الأولى بروايتين جديدتين، حين فرغت جعبتها من إمكانية تقديم إبداع جديد؟ أم أنها أفادت من كون الرواية فناً متفلتاً من القواعد والقيود؟
تشير المؤلفة إلى أن أحلام مستغانمي قد أعادت إنتاج رواية «ذاكرة الجسد» في روايتيها: «فوضى الحواس، وعابر سرير»، من خلال إعادة خلط نصوصها بعضها ببعض، عن طريق استنساخ أبطالها، «وتظهر إعادة الكتابة، وعملية الاستنساخ بشكل أكبر وأعم، في «عابر سرير»». ولا بد هنا من الإشارة إلى أن الراوي في «ذاكرة الجسد» و»عابر سرير» كان ذكراً، وفي فوضى الحواس، كانت الراوية أنثى، وهي في الوقت نفسه بطلة الروايتين الأولى والثالثة.
التعالقات والتضمينات النصّية
حرصت المناهج النقدية على دراسة تاريخ الأدب وتاريخ النقد الأدبي من مذهب إلى آخر ومن رؤية إلى أخرى، كما اهتم المنهج النفسي بدراسة علاقة العمل الروائي بمؤلفه، واهتم المنهج السوسيولوجي بدراسة علاقة النص الروائي بالمجتمع، كما حرص المنهج البنيوي على تحجيم كل علاقة النص الروائي وإلغائها، لذلك تجب الإشارة إلى أن كل هذه المناهج قد أغفلت دراسة علائق النص الروائي بغيره من النصوص، لذلك فإنه من الضروري إعادة كتابة تاريخ الأدب على ضوء علاقات النصوص بعضها ببعض، فتكون الصياغة الجديدة لتاريخ الأدب، هي تاريخ علاقات تداخل النصوص.
تقول المؤلفة في هذا السياق: «إن عملية اكتشاف التعالقات النصية بين النصوص ليست بالعمل الهيّن، ولكن الناقد التناصي يستطيع استشفافها من خلال البحث والتنقيب ما بين السطور، فقد يخبئ النص بين ثناياه نصاً آخر، وظاهرة تعالق النصوص». مهما تسترت واختفت فإنها لا يمكن أن تخفى على القارئ المطلع الذي بإمكانه أن يعيدها إلى مصدرها.
ولم تقتصر التعالقات النصية مع غيرها فحسب، بل ابتدعت أحلام مستغانمي أسلوباً آخر، وهو بناء نص لها من التقاط حدث من هنا أو قول من هناك.
وتتوالى الإبداعات عند أحلام الواحد تلو الآخر، وتتوالد معها بحسب قول المؤلفة: «الأفكار وتتناسل النصوص، وكلها تتراءى إلى أذهان الرواة من مخزن الذاكرة التي تستجلب الفكرة فتحيك منها نصها، أو هذا ما تريده أن يبدو، فهي تريد، وللقارئ حق التمييز، خصوصاً حين يشعر بأن أحلام مستغانمي قد سجلت هذه الإبداعات ووضعتها جانباً بينما كانت تحضّر وصفتها للكتابة الروائية». وهذه الإبداعات كانت التوابل المعدّة للاستخدام حينما تسنح الفرصة، ودائماً رواتها مأخوذون ببعض الأقوال التي يسردونها.
ومن الصعب الحكم على أسلوب أحلام مستغانمي الذي اتبعته من خلال استخدامها تقنية الإبداع، إن كانت قد خدمت نصوص ثلاثيتها أم لا، خصوصاً في ضوء نظرية الفن للفن، التي تهدف «إلى تكسير قوالب الرتابة، بالإضافة إلى ابتكار أساليب جديدة. كما أن نظرية الفن للفن كانت للكاتب بمنزلة الدرع الذي يقيه من سهام النقد الحادة». إنه من الخطأ أن يُحكم على الفن بمقاييس تُعد خارجة عن طبيعته الفنية، وأن قيمة الفن قيمة فريدة لا مثيل لها.
فالمصاحبات الأدبية والتضمينات النصية قد صاحبت نصوص أحلام مستغانمي وجاورتها وتفاعلت معها، وأصبحت بحسب رأي المؤلفة، جزءاً من نسيجها. كثيرة هي القضايا والأفكار المتشابهة والمتقاربة، والمغايرة والمختلفة، والمتعارضة والمتناقضة، التي مزجتها أحلام مستغانمي ببعضها بعضاً كي تنشئ منها نصاً، وتمنحه هوية مستقلة بذاتها. إن نقد الرواية يحتاج إلى أن يتعامل مع النصوص على أنها تمتلك وجوداً مستقلاً، وفي الوقت نفسه، لها امتدادات وتناصات وتوافقات وأصداء مع نصوص أخرى وفكر آخر.
الأنوثة والذكورة
لثلاثية الجسد والأنوثة والذكورة هوية أسطورية، وفلسفة شديدة التعقيد، وما زالت البحوث التاريخية والنفسية والبيولوجية عاجزة عن تحليلها وفهمها، أو وضع مفهوم محدّد لها، لأن جدليتها مستمرة ومتجددة ومتغيرة، لكن الثابت أنه لا فضل لإنسان على إنسان بجنسه أو لونه أو شكل جسده، وإنما فضل الإنسان يتأتى بعمله وعلمه وما يقدمه لنفسه وللآخرين.
وثلاثية الجسد والأنوثة والذكورة من منظار المؤلفة، احتلت المساحة الكبرى في نصوص ثلاثية أحلام مستغانمي، «فقد تناولتها من خلال تكوينها المعنوي، والبيولوجي، شكلت هاجساً أساسياً في بناء نصوصها من خلال التوازي بين حروف اللغة وكلماتها التي برعت مستغانمي في صياغتها على الشكل الذي تريده، كونها كاتبة عربية أنثى، تكتب وعينها على المجتمع الذي يراقبها، وهو جاهز دوماً للحكم عليها»، لذلك تلحفت بالجوانب المعنوية، وتعمقت بها، ومنحتها أبعاداً فلسفية ونفسية، مما مكّنها من الخوض في الجوانب البيولوجية الغريزية.
تناولت مستغانمي الجسد في ثلاثيتها من ناحية أنه كيان معنوي مستقل، ومدى ارتباطه بالروح وكل ما يعتريها من مشاعر مختلطة لا يتحكّم بها الوعي، ومن ناحية أنه جسد بل ما يرافقه من حواس وشهوة ورغبة.
تشير المؤلفة إلى أن الجسد تماهى روحاً وكياناً في نصوص مستغانمي مع الوطن والثورة، وما دفعه من أجلهما الثائر المجاهد خالد بن طوبال، الشخصية المحورية في «ذاكرة الجسد» وراويها، وكل ما حمله بسببهما من ألم نفسي ومعنوي وجسدي، فتشابك جسده مع جسد الوطن الجريح النازف، وتشاركا معاً الوجع نفسه، وتبادلا فيما بينهما مشاعر اليتم ببرودته، والحرمان بقسوته.
كانت فكرة الجسد في رواية «فوضى الحواس« مختلفة تماماً عن فكرتها في «ذاكرة الجسد»، ونقطة تحول كبيرة، «فقد غلبت عليها الرغبة والشهوة بصورتيها الفكرية والجسدية، وفتحت باب المخيّلة عند الكاتبة على مصراعيه كل من تصوير ووصف الرغبة والشهوة التي وصلت في بعض الأحيان إلى درجة من الشبق».
الأنوثة وفلسفتها
لم تقتصر عملية التفريق بين الأنوثة وبين الذكورة في تركيبتيها البيولوجية والاجتماعية، ولكنها اقتحمت عالم الأدب والكتابة والتأليف، فأصبح هناك ما يسمى اليوم الأدب الذكوري والأدب الأنثوي أو النسوي، فانتفضت الكاتبات العربيات ضد هذا التفريق المجحف على اعتبار ان «عبارة الأدب النسوي درج استخدامها باعتبارها عبارة مهينة، أو على الأقل تنبئ بنقص ما».
وتؤكد المؤلفة على أن أحلام مستغانمي حرصت في نصوص ثلاثيتها على الكشف عن الصوت الأنثوي على غرار الأديبة غادة السمان، داخل سياق فلسفي ونفسي واجتماعي وثوروي، وحاولت من خلاله إبراز الذات الأنثوية، والبحث المستمر عن هويتها، فالأنوثة الواعية لذاتها تحمل في أغوار نفسها وطناً ينبض. تكتب المرأة ضد وعي ذكوري سائد غير مدرك، تكتب المرأة لتعبر عن سبل تستعيد بها الأنثى ثقتها بذاتها المفقودة.
كما أن أحلام قد حرصت على أن تجمع في الأنثى البطلة بمباركة الراوي، عنصري الذكورة بكل ما تحمله من جبروت وعنفوان وقوة، والأنوثة بكل ما تحمله من نعومة ودلال وإغراء. «عاشت أحلام مشاعر الرجل ولبست ثوبه الداخلي، فكتبت بعاطفة الرجل بكل ما يعتملها من مشاعر وأحاسيس من خلال صورة الراوي، ثم طغت عليه بعواطف الأنثى الكاتبة، المتمثلة في صورة البطلة».
يثير محور الأنوثة الجبروت والرمز جدلاً بين القارئ المتعمق وبين النص، وبين القارئ وبين الراوي، فقد وقع راوي «ذاكرة الجسد» في عشق البطلة منذ اللحظة الأولى، فاختلط عليه الأمر، لأنها جلبت له معها خمسة وعشرين عاماً من الذكريات انهالت عليه دفعة واحدة وأحرقته كالبرق.
ناقشت أحلام الأنوثة في نصوصها، من خلال أبعاد مختلفة، عكست في كل مرة رؤية جنس الراوي، الذي يتولى مهمة السرد: فقد مثلت الأنوثة الجبروت، والطغيان، والرمز، في الرواية الأولى من الثلاثية، «المسرودة على لسان الراوي الذكر، أما في الروايتين الثانية والثالثة من الثلاثية، فقد مثلتا الأنوثة ـ المرأة بقوتها وضعفها، بأحاسيسها ومشاعرها، ومغامراتها السرية المغلّفة بالخوف والجرأة، ووجودها الاجتماعي».
فلسفة الذاكرة
طرحت أحلام مستغانمي في نصوص ثلاثيتها «ثلاثية الذاكرة والحب والخيانة، ما أضفى عليها طابعاً إنسانياً، وبعداً فنياً، منطلقة من مفهوم حداثي للفن، بدت وكأنها قريبة من نظرية الشاعر الفرنسي شارل بودلير، الذي يرى أن الحداثة «حضور الابدي في الآني والموقت، فهي الجمال الموجود في الموضة التي تتغير في كل فصل من الفصول، وهي تجديد يحمل في داخله الشعور بأن الأبدي سينتهي بالتحلل في ما هو آني، كما يحل الحب في الرغبة، وحتى لا يمكن إدراك الابدية إلا في الوعي بغيابها وفي قلعة الموت».
وبدت الذاكرة في نص «ذاكرة الجسد» وكأنها القلب بالنسبة إلى معمارها، والمفصل الرئيسي الذي يحركها، تقول المؤلفة: «فقد نقبت في دهاليز الماضي وبحثت في كينونته، وأعادت سرده ليصبح جزءاً من الحاضر«. وهكذا نجد ان الرواية تعتمد في بادئ الأمر على المراقبة، ومن ثم على الوصف، لأنهما عنصران أساسيان لتقدم المجتمع وتطوره، وفي الوقت نفسه تحليل للنفسيات والعواطف، ووصفها من خلال الشخصيات التي تعمل على تصوير ذلك الواقع وتجسيد الماضي كما تراه هي من وجهة نظرها.
وقد استعانت أحلام بالواقع التاريخي الحقيقي، فبدت «ذاكرة الجسد» من ناحية مضمونها، كأنها سيرة ذاتية.
إن الذاكرة الأدبية، تمد الهوية الثقافية بما تحتاج إليه من المقومات الضامنة لاستمرار التفاعل بين الأجيال، فهي تحاكي اللغة بالتمثيل والإنشاء، بلا ذاكرة لا توجد تجارب.. لا يوجد سوى فراغ الموت.
[ الجسد: في مرايا الذاكرة
[ الدكتورة منى الشرافي تيم
[ منشورات ضفاف ـ 2015