أشكر الصديق العزيز الكاتب والناقد الموهوب طلعت قديح على هذه القراءة المميزة لبعض وجدانياتي من ديوان “كالمنى اسمي”
لك مني أجمل المنى

ركوة حرف 20
(كالمُنى اسمي) ديوان الشاعرة د. منى الشرافي تيم
قراءة : طلعت قديح
( كالمُنى اسمي ) إصدار أدبي للشاعرة د.منى الشرافي تيم من إصدار الدار العربية للعلوم ناشرون ويقع في 126 صفحة ، وقد أطلقت عليه مسمى ( وجدانيات) , والذي يندرج تحت مسمى ( الشعر الوجداني) ، القائم على محاكاة الحس الداخلي ، وتصوير انفعالات النفس ، وما يصاحبها من عبير صادق عنها . . .
ربما يكون هذا الوصف عودة للإشكالية المتجددة، والذي يعبر عنها السؤال المتجدد : ما هو تعريف الشعر ؟ وما هو تصنيف الأنواع الأدبية الأخرى كالنثر ، الومضة ، والهايكو ….الخ ، متداخلة في كينونتها في هذه الإشكالية .
تبدأ وجدانيات الشاعرة بإهداء أنيق ، وبدعوة اتسمت بالاقتدار والاعتداد بالنفس بقولها ( دعوة من أنثى الأحاسيس والمشاعر) ، وهي مع هذا الوصف تتماهى بما تقره في هذا الإهداء بقولها ( الحب لا يأتي مصادفة كما يدعون … والكره لا يأتي مصادفة كما يقولون …
قُسمت الوجدانيات إلى 7 أقسام وهي ( هذيان المشاعر ، غرور أنثى ، مرايا القلب ، سطوة الكلمة ، غليان الأوطان ، رقصة قلم ، ومضات فلسفية ) .
تبدأ وجدانيات بقصيدة ( كالمُنى اسمي ) ، والتي يمكن أن نعتبرها قصيدة ذات نفس واحد ، بمعنى أن الجو الشعوري لم يتوقف ، وأنها لم تُكتب على دفقات أو أجزاء ، بل كتبت باسترسال جميل ، عبرت فيه ن أحاسيسها ، ولنا أن نرى مبتدأ القصيدة :
(هَذَيانُ شِعْري
قصائدي شرّعتْ مراكبَها
فَأَبْحَرَتْ
على هَذَيانِ شلالاتٍ
مِنْ شِعري ) .
وهنا يتسم النمط الشعري بالتأرجح بين الوعي واللاوعي ، وأقصد هنا أن وصف ( هذيان شعري ) يعبر عن حالة لاوعي ، تتولد من حالة وعي الكتابة وهي مفردة ( قصائدي ) ، لكن بالمقابل فإن أية قصيدة لا تستوفي المعيار المتعارف عليه لمسمى ( قصيدة ) ، إلا إذا كانت في حالة وعي ، وإلا فستكون خيالات غير متناسقة ، ثم ترتد حالة الوعي إلى حالة اللاوعي بوصفها ( هذيان شلالات من شعري ) .
ويبدو أن هناك مواءمة تتم ما بين ( هذيان شعري ) بكليته وبين تعدده وإفرازاته بقولها :
( فأبحرت
على هذيان شلالات
من شعري ) .
وفي مقطع آخر تكشف الشاعرة عن تفسير تسميتها لشعرها الوجداني بـ ( كالمُنى اسمي ) قائلة :
( لا .. لا
ليسَ الغُرورُ مِنْ طَبْعي
فَمِنْ حقِّ
نفسي أَنْ أُحِبَّ
وأَنْفُسَكُمْ أَحِبُّوا
هوَ ذاكَ
السرُّ في شريعتي
سَهْلُهُ يمتنعُ
يَنْبِضُ بهِ مَنْ يملُكُهُ
وَمَيْتٌ هُوَ مَنْ لا
نفسَهُ يُحِبُّ ) .
وهذا إقرار بما قد يكتنف الوصف من اتهام بالغرور أو النرجسية ، وتبيان الأحقية في التسمية ، وختامها بفلسفة خاصة للشاعرة بقولها : ( وميت هو من لا
نفسه يحب ) ، وفي هذا نرى التقديم والتأخير !
وفي ملمح آخر من نص ( كلمة أحبك أسمعني ) ، نرى تكثيف الصور والتراكيب الجمالية حيث هناك . . .
( زَرَعَني صَمْتُكَ في أَتُونِ المَرايا
جَزَّأَتني مَعَ مواسِمِ الحَصادِ
فَرَحَلْتُ إليكَ
حَيْثُ أَنْتَ في الوادي العميقِ )
مشهد ثري بصورة جمالية متحركة ، وتسلط الضوء على علاقتنا اليومية بالمرايا ، والانعكاس النفسي الذي ننتظره منها ، وفقًا لاحتياجاتنا من الضوء الداخلي ، فتحريك الجامد (اشتعال الصمت) يعني التناقض الوظيفي ـ والإبداع في أنها منحت الساكن روحا في الصمت الذي يزرع، والمرايا التي تشتعل – هنا غيرت الشاعرة من كينونة النار التي تعني الموت في مجمل أحوالها، وجعلتها تقسم الذات مع مواسم الحصاد وما تعنيه من حياة .
وفي نص ( نبّهتك لرسمي ) ، تستخدم أفعالاً مضارعة ، بالرغم من أن العنوان بدأ بالفعل الماضي ( نبهتك)، والأفعال هي ( أغالب ، أجذف ، أبتهل ، أرفع ، أستطلعك ، أشعرك ، تتقاذفك ، يلسعنك ، يتمارين ، أتراجع ) ، وكأن المحتوى في ثناياه في حالة استنفار ذهني ، والذي أخذ من النمط الحركي المتداخل للنص ، ما بين الأفعال المضارعة ، وأيضا المستبقة بالفاء السببية في ( فيأتيني طيفك ، فتلفحني أنسام عطرك ، فتتعالى رؤوس النساء ، فتبدلت لهن ، فأبتعد ، فاستعرت ، فأضاءت، ثم فنبهتك لرسمي ) .
تقول الشاعر في بداية نصها
( أُغالِبُ نَواقيسَ الوَقْتِ
وعُرْيَّ النَّهارِ
وأُجَذِّفُ على بَرِّ اللَيْلِ )
صورة صراع جلي بين خصوم عديدين ، بين نواقيس الوقت وعري النهار ، واستنجاد بالليل ، هاربا من انكشاف الشمس ، وهذا يحيلنا إلى ان الفترة الزمنية تقع ضمن فصل الصيف ، والذي يكون فيه النهار أطول إحساسا به من الليل ، بالرغم من أن الشاعرة استخدمت وصف ( وأشعرك بدفئي ) إلا انه يعتبر وصفًا مجازيًا ، يقصد به الحنان وليس الوصف الجسدي .
وتبرز الحكمة في نصوص المجموعة وبوضوح كبير في نص ( زمان الكلمة ) ، فتقول :
( صوتُ العقلِ أَبْقى
إِنْ أخطَأ القلبُ الخَيارَ
وعزيزُ النّفسِ يبقى لا هوانَ
ولا استصغارَ
إنّهُ زمانُ الكلمةِ
في حِضْنِ العبارةِ
مكللةً بالمعنى والفكرةِ
لأَبْعادِها مغزى
تبني صُروحًا وتَهْدِمُ عروشًا
في لحظاتٍ
إنَّهُ زمانُ الكلمةِ ) .
إن أردت ان توصل فكرة ما ، فما عليك إلا أن تبدأ بالمعنى الأهم ثم المهم ، فهنا إعلام بأن زمان الكلمة يكمن في صوت العقل .
بيد أن هناك استدراكًا لصوت آخر وهو القلب مصدر الأحاسيس والمشاعر ، واستخدمت حرفًا ناسخًا ( إن ) ، والذي يحتمل التحقق وليس حتميته ، والشاعرة في ذلك تحقق أن القلب يخطئ كثيرًا ، وبالتالي ما بعد ذلك ، ما يعزز هذا الاعتقاد
فتقول : ( وعزيز النفس يبقى لا هوان
ولا استصغار
إنه زمان الكلمة ) .
وما يليه من معانٍ يؤكد أن الكلمة الأولى والأخيرة للعقل لتختم القصيدة بـ (إنه زمان الكلمة) .
يتسم نص ( قيامة الأموات ) بمشاهدة لعدة لقطات فلاشية ، ترسم لنا المشهد العام بريشة متلونة ما بين العتاب ، العشق ، والفزع الذي يؤول لمشهد الذروة وهي قيامة الأموات .
ونرى في قولها ( على أَعْتابِ العُيونِ تَنْثُرُ القُلوبَ
عِتابُها
بَراعِمُ دُموع ٍجَمَّدَها الكِبْرياءُ
وأَرْواحٌ شَرَّدَتْها الرِّياحُ وبَعْثَرَها السَّأَمُ) .
جاءت هذه الصورة الجمالية معاكسة للمحسوس ، فالمتعارف عليه أن العيون هي التي تبرز العتاب ، سواءً بالحملقة ، أو بالدمع ، أو بالإغماض ….الخ .
لكننا نرى أن الشاعرة توغلت في الإحساس بالوجع ، فجُعل الشعور داخليًا ، مما يشكل ضغطًا إضافيًا ، وهذا يفاقم الألم به .
ونلحظ الجمال التصويري للدموع التي نمت براعم فتفوقت من إثر الكبرياء !
ويتصاعد الحدث الدرامي في القصيدة حتى يصل لنقطة الختام ، حيث تقول : (والنسور في ضبابها تراقب
متأهبة
فزعًا من قيامة الأموات ) .
فالضباب والمراقبة يكونان في العاليات من الأماكن ، وأتى اختيار مفردة ( متأهبة ) باتجاه الطردية العلمية ، بمعنى أن الشخص في المكان المرتفع يحتمل اثنين من الأوضاع ، إما أن يكون مرتاحًا في مكانة لأنه مكان آمن ، أو أن يكون متأهبًا لمراقبة حدث ما ، فيكون لديه إحاطة أكثر من الشخص المنغمس في خضم الأحداث .
لكننا هنا نقف أمام وصف ( فزعًا من قيامة الأموات ) ، والطبيعة تقتضي ان إحياء الأموات هو مبعث للبهجة والفرح ، فكيف يتفق الفزع مع قيامة الأموات ؟
فهل كان هذا الوصف الدرامي خاصًا بالنسور وطبيعتها الغذائية التي يُعرف بأنها لا تتغذى إلا على جيف الحيوانات ، وبالتالي كان من الطبيعي أن يصيبها الفزع من خسارتها لغذائها !
أم كان محصلة للمشهد المتتالي بقول الشاعرة : ( فَانْتَعَشَ قَلْبُ الأرضِ
بِأَجْسادِ أَفْلاذِها
تَشَقَّقَتْ لها الصُّخورُ أَلَمًا
وانْتَفَضَتْ مِياهُ الأَنْهارِ
ومَالَتْ مِنْ قَهْرِها ظُهورُ
الجِبالِ
والنُّسورُ في ضَبابِها تُراقِبُ
مُتَأَهِّبةً
فَزَعًا مِنْ قِيامةِ الأَمـواتِ ! )
فهل كانت الخاتمة هي نتاج الصور للصور السابقة في القصيدة !
كانت هذه قراءتي لمقتطفات من الالتقاطات التي اخترتها من الإصدار الأدبي ( كالمُنى اسمي ) .