من فوهة النار إلى بوابة الجحيم

 كم هي مؤثرة وموجعة تلك النكبات المتتالية، المصوّبة إلى صميم وطننا العربي، بسبب السياسات المحاكة له من الخارج، وهدفها تنفيذ مآرب ذات أبعاد متنوعة، والأطماع التي جمّدت عقول ساسته، وضخّمت صناديقها الحديدية في المصارف. أما مُرّ كل ذلك وعلقمه فيتذوقه المواطن العربي، حين يأتي آوان تنفيذ السياسات المدفوعة الأجر التي رُسمت لوطنه مسبقاً، فلا يجد أمامه إلا أمرين: إما أن يبقى في قلب النار، مواجهاً الدمار والمدافع والقنابل والصواريخ، ورائحة الدم، وجثث الموتى المتناثرة بين الركام. وإما أن يخرج منها هارباً إلى جحيم الشتات والضياع والفقر والقهر والذل.

لقد هُجِّر الفلسطينيون منذ عشرات السنين من فلسطين لصالح إقامة الدولة الصهيونية، وتشتتوا في البلاد القريبة والبعيدة، وذاقوا القهر والذل والتشريد، وبقي حُلمهم بالعودة قائماً، وماتوا وهم يحلمون! وتمكن الفلسطيني اللاجئ مع الوقت من التأقلم مع وضعه، ودخل في نسيج تلك الدول التي هُجِّر إليها، وآخر كان محظوظاً فحصل على جنسية تلك البلد، ونال معظم حقوقه كمواطن وساهم في الإعمار والعلم والاستثمار. وآخرون في بلاد أخرى ما زالوا يُعاملون كأنصاف مواطنين، يعيشون في مخيمات تنقصها مقومات الحياة، ولكنهم تأقلموا مع وضعهم وتتدبروا أحوالهم وحافظوا على كراماتهم.

وبعد نكبة فلسطين ونكستها لم يتوقع أحد أن استعماراً من نوع آخر سوف يكون من نصيب العراق. وأن الثورات العربية الربيعية سوف تهبُّ رياح بارودها على أجواء تونس ومصر وليبيا واليمن لتغيّر معالمها وتعيدُ خلط حدودها. أما ما لم يكن في حسبان المواطن العربي، والذي كان مسجلاً على أجندة المخططات الشيطانية، هو الظلام القاتم الذي حلّ على سوريا، وجرف أهلها وناسها جرفاً إلى دروب الغيب وسهول المجهول، وتناثروا برّا وبحراً، فمنهم من أصبح مشروع تجارة مربحة للشطّار، ومنهم من أستقرّ في قعر البحار. هربوا من فوهة النار، فاستقبلتهم بوابة الجحيم.

إن ما يحصل للاجئين السوريين اليوم أمرٌ مرعب، يتناقض مع مفهوم الإنسانية، والتفسير المنطقي لحدوثه، هو أننا نعيش في غابة مليئة بالوحوش البشريّة؟! لقد هربوا خوفاً من الموت، فهل هم فعلاً أحياء؟ يعيشون في جحور لا تقي حر الصيف ولا برد الشتاء، يعيشون بلا طعام ولا شراب، بلا أمل أو مستقبل، بلا بلسم لجراحهم أو علاج لأوجاعهم. يقتاتون الذل ويتجرعون الهوان. فماذا يفعل أولئك الذين خسروا كل شيء؟ ماذا يفعلون والعالم يراهم ويصمت؟ ماذا يفعلون حين تقف عند حدودهم أبواق الشعارات الرنانة الفارغة التي تنادي بحقوق الإنسان.

أما السؤال الوحيد الذي يحمل عدداً من الإجابات هو: ماذا يفعل أولئك حين تجد الوحوش البشريّة الجائعة والجائرة طريقها إليهم؟

إن أهداف هذه الوحوش عديدة ومتنوعة، أبسطها ذلك الكهل الذي يدفع مبلغاً من المال مقابل أن يتزوج من فتاة قاصر. وذلك الذي يُرسل أسرة بأكملها إلى الطرقات من أجل التسول… يتعرضون لشتى أنواع المخاطر والأذى النفسي والجسدي. أما أخطر هذه الأهداف وأبرزها وأكثرها كسباً، فتتمثل في نوعين: الأول، تضليل الفتيات وخداعهن وحبسهن في بيوت مجهزة، وإجبارهن على ممارسة الدعارة واستباحة أجسادهن لكل من يدفع، ومن ترفض منهن الإذعان للأوامر، تُجلد وتُضرب ضرباً مبرحاً، وقد يودي العنف بحياة الكثيرات منهن، دون أن يعلم بهن أحد. أما النوع الثاني فيتمثل في مافيات خطف الأطفال من أجل الاتجار بأعضائهم، يجرون لهم الفحوصات اللازمة ويجهزونهم للتشريح والموت من أجل أن يحيا شخص آخر معتل مستعد لدفع الملايين مقابل أن يسترد عافيته أو عافية أحد أفراد أسرته.

والأمر لا يقف عند هذه الحدود فحسب، بل نجد أن مقداراً كبيراً من مشاعر البغض والكراهية والحقد قد تضخمت مع الأيام بين اللاجئ ومواطني البلد الذي لجأ إليه، فيرى المواطن أن اللاجئ قد ضيّق عليه عيشه، وحرمه رزقه حين قبل العمل بأجرٍ زهيد. ولا بدّ من الإشارة، إلى أن مشاهد الحاجة والفقر والبطالة التي يعاني منها المواطن واللاجئ معاً في بعض الدول أدّت إلى تنامي الأعمال الإجرامية، كالسرقة والقتل والاتجار بالمخدرات وغيرها…

إن الأمور في طريقها إلى الأسوأ، إن لم يتم السيطرة على الآفات الاجتماعية المدمرة، التي أنتجتها الحروب، فبارودها ليس أقل خطراً ودماراً من بارود آلات الحرب، فالضرب بالنار في بلد الحرب.. يسير معه بالتوازي ضروب من التوحش في البلاد المجاورة، والكل خاسر.

اللاجئ إنسان فرّ من الموت… وهو يستحق كرامة العيش! والمواطن يستحق أن يشعر في وطنه بالأمن والاستقرار، وهذان الأمران هما ليسا مسؤولية البلد المضيف الذي زادت أعباؤه وهمومه فحسب، بل مسؤولية المجتمع الدولي الصامت!

د. منى الشرافي تيّم

About monaat

منى الشرافي تيم فلسطينية الأصل والجذور أردنية الجذع والفروع لبنانية الثمر والزهور ابنة الوطن العربي...فخورة بعروبتي عضو في اتحاد الكتاب والأدباء الأردنيين عضو في المنظمة العالمية لحوار الحضارات في العالم إصدارات: عدد 8 روايات: وجوه في مرايا متكسرة مرايا إبليس مشاعر مهاجرة وجدانيات: حروف من نور كالمنى اسمي نقد أدبي: أدب مي زيادة في مرايا النقد الجسد في مرايا الذاكرة أدب الأطفال: العربيزي والجدة وردة الإصدارات عن الدار العربية للعلوم ناشرون - بيروت المؤهلات:دبلوم في هندسة الديكور والتصميم الداخلي:الأردن دبلوم في إدارة الأعمال:إنجلترا ليسانس ودبلوم دراسات عليا في اللغة العربية وآدابها ماجستير في اللغة العربية وآدابها تخصص نقد أدبي واجتماعي, جامعة بيروت العربية بعنوان: "أدب مي زيادة من منظور النقد الأدبي والاجتماعي درجة الدكتوراه في اللغة العربية وآدابها تخصص نقد أدبي حديث (جامعة بيروت العربية) بعنوان: "الفن الروائي في ثلاثية أحلام مستغانمي دراسة تحليلية نقدية"
هذا المنشور نشر في عام. حفظ الرابط الثابت.

الرجاء ترك تعليق

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s