لو حاولنا الغوص في أعماق النفس الإنسانية لوجدنا شبهاً كبيراً بينها وبين أعماق البحار في اختلافاتهما وتشابهاتهما وتشعباتهما وتناقضاتهما، إلا أن هناك فرقاً جوهريا بينهما، وهو أن البحار ممتدة تحكمها تقلبات الطبيعة، أما النفس البشرية فيحكمها العقل ودرجات الفكر، وتتحكم بها المشاعر الطارئة على اختلافها – المفرحة والحزينة والصادمة – تلك الأعماق الإنسانية المعقدة، والمشاعر ذات الخصوصية التي تشبه أصحابها، تختلف من شخص إلى آخر في ردود أفعالها، وتتفاوت في درجات تقبلها للطارئ بكل أشكاله. وغالبا ما تظهر الانفعالات النفسية عند الشعور بالغضب، خصوصاً إذا كان مصدر هذه الانفعالات الكذب والخداع، أو الخيانة والتحايل، أو الإهانة والتحقير. فهناك النفس التي تثور وتغضب وتلعن وتستعد للانتقام في أول فرصة تسنح لها، وأحيانا كثيرة يكون حجم انتقامها أكبر وأعنف وفي السر أو العلن، والأمر في هذه الحالة لا يتوقف عند هذا الحد فحسب، بل يترتب عليه تصرفات أخرى كثيرة، تبدأ بالحرص الشديد، والحذر المفرط من كل المحيطين بها، مروراً بالخوف منهم ومراقبة تصرفاتهم بتفاصيلها، وصولاً إلى شيوع الإحساس بفقدان الثقة بهم، والكل عندها مذنب أو مشروع مذنب. وهناك النفس التي تحقد وتضغن وتكره ثم تصمت، فتكبر جمرة النار الموقدة داخلها، فتحرق ذاتها حرقاً بطيئاً مؤلماُ مما قد يؤدي بها إلى الاكتئاب والميل إلى الوحدة، وهي بذلك تكون قد تسببت بنوع من الأذى الذي يفوق ما تعرضت له وأوصلها إلى هذه الحالة. وهناك النفس التي تبتلع تلك الانفعالات لفترة من الزمن، وحين تهدأ ويعود إليها توازنها، تواجه وتعاتب وتضع النقاط على الحروف، ثم تسامح أو ربما لا تسامح ولكن المهم في الأمر أن تتصالح مع ذاتها كي تحظى بسلامتها وسِلمها.
إن كل النقاط الانفعالية التي تم عرضها في مقدمة هذه المقالة واردة الحدوث، ومهما كان شكل ردود الأفعال، فهي لا بدّ ستترك أثراً كبيراً في العقل الباطن الذي يصوّرها ويسجلها ويحفظها في قلب الذاكرة، التي ما تلبث جرّاء أي طارئ أن تعيد بث ما مضى في الذهن، فتضطرب النفس مرة أخرى وكأن ما حدث لها يحدث الآن، وبنفس القسوة إن لم تكن أكثر قوة وتأثيراً، وهذه العملية الاسترجاعية التي يقوم بها العقل، لن تؤثر إلا في نفس صاحبها، ونتائجها السلبية تصبح أعمق، فيكبر الإحساس بالظلم، ويتمدد في الشرايين فيضيق الصدر ويثور على أمور تافهة بسيطة، ويصبح وجوده عبئاً على من حوله، فربما يصبُّ جام غضبه على أفراد أسرته أو زملائه في العمل أو أصدقائه؛ كل الذين لا ذنب لهم، وليس لديهم أدنى فكرة عن الصراع المرير الذي يدور داخل أعماقه، وعندئذٍ قد يبتعدون عنه، مما يؤدي إلى تأزم وضعه أكثر، ويضعف إنتاجه وتقل قيمة أي عمل يقوم به… فصراخه الصامت المتألم لن يسمعه أحد.
هنا علينا أن نتوقف ونسعى إلى معالجة تلك النفس المتعبة، المثقلة الكاهل، المحاصرة بكل ما طالها من أذىً على اختلاف أنواعه وتشعب مصادره. وأكثره قسوة هو ذلك الآتي من أقرب الناس إلى القلب والوجدان. عندئذٍ لن يكون الحل سحرياً، فلم يتمكن أحد إلى يومنا هذا من اختراع ممحاة للألم، إلا أن هناك مرادف يعادل ما سبق وهو (التسامح) لأنه الدواء الناجع لهذه الحالة وفيه الشفاء، ولا يلجأ إليه كثير من الناس ظناً منهم أنه ضعف واستسلام وانتصار للآخر الذي ظلم أو خان. وكلامي هنا ليس شعارات تقال أو ثرثرة كلام غير قابلة للتنفيذ، لأن الهدف المرجو إيصاله هو القيمة الإنسانية الكبرى التي تقبع ما بين حروف كلمة التسامح، حين تتحول إلى إحساس ينبض ويتنفس ويملأ الجسد قوة وطاقة. إن التسامح طاقة إيجابية تعيد إنتاج ما تأذى وإصلاح ما أصابه الضرر، ومردودها يعود إلى النفس التي سامحت وعفت وغسلت كل عوالقها، فتتجدد وتتألق وتُقبل على الحياة القصيرة بفرح، وقد تكون صفعة التسامح أكبر وأقوى من صفعة الانتقام، لأن خاصية التسامح لا يملكها إلا قوي الشخصية، كبير النفس، عظيم التأثير، الذي يتعلم من أخطائه فلا يكررها، ويصبح قادراً على حماية نفسه من صفعات جديدة محتملة، فالألم خير معلم والحذر مرغوب ومطلوب. لذلك علينا أن لا نتوقف أمام الأبواب الموصدة … كي لا نصل إلى قلب الوحدة ونتنفس الفراغ.
إن أخطأ أحد في حقك فسامح… وإن أخطأت فاعتذر … لو أننا اتبعنا هذا النهج في حياتنا، لعشنا في عالم أفضل وأجمل وأنقى، لأن في ذلك تصالحاً مع النفس، ومن تصالح مع نفسه تصالح مع الحياة… وحيّر في أمره العدو قبل الصديق!
د. منى الشرافي تيم
قام بإعادة تدوين هذه على منى الشرافي تيم.