لقد لعبت التقنيات التكنولوجية على اختلاف أنواعها وأشكالها منذ ظهورها دوراً كبيراً في حياة الكثيرين، وقد تطور هذا الدور مع تطور تلك التقنيات وتماشى معها، وكانت تلك التقنيات للبعض كمن وجد ضالته، لأنها منحته الصورة التي تمنى لو يكون عليها، حتى لو كانت في معظمها ضروباُ من الوهم في مغايرتها للواقع وتنافرها مع الحقيقة، فضلاً عن أنها ساعدت على تمتين أواصر المظاهر الاجتماعية، والتباهي بخداع النفس والناس من خلال أقنعة زائفة.
إن تقنية التصوير الذاتي “السلفي” التي توفرت في الهواتف الذكية منذ ظهورها، مكّنت الشخص من التقاط صورة لنفسه ولمن معه عبر هاتفه النقال، ومعظمهم يحتفظ بها في ألبومه الخاص من أجل الإبقاء على بعض اللحظات المميزة للذكرى، وهذا أمر جميل، فما أكثرها تلك اللحظات السعيدة التي نسجلها مع أشخاص نحبهم قد لا تسمح لنا الظروف أن نكون معهم، ثم نعود إليها، فنعيشها وكأنها تحدث الآن، والأكثر جمالاً أن نتشارك بعض اللحظات الجميلة مع الأصدقاء ومع من نُحب… ولكن بواقعية! وهذا هو الجانب الإيجابي في هذه التقنية الحديثة. أما حين تتحول هذه التقنية إلى ظاهرة مرضية وهوس اجتماعي، فعلينا أن نتوقف عندها ونناقشها ونبحث في أسبابها؟
حين توفرت تقنية التصوير الذاتي (السلفي) في الهواتف الذكية، كان الشخص يلتقط عدداً كبيراً من الصور، ويحاول أن ينتقي منها الصورة الصالحة كي ينشرها على المواقع، ليشاركها مع الأصدقاء الواقعيين والافتراضيين. أما صور الأطعمة المطبوخة في البيت أو المقدمة في المطاعم، فتصدرت واجهات مواقع التواصل الاجتماعي، فأصبح الكثيرون يزينون الطعام بطريقة فنيّة ثم يقومون بتصويره ونشره. وهذا الأمر يثير الغرابة، وإلى الآن لم أجد تفسيراً مقنعا لتلك الظاهرة غير أنها وسيلة للتسلية فقط! وبعد مرور الوقت تطورت تقنية “السلفي”، وأصبح هناك عدداً كبيراً من “تطبيقات الجمال” وهي بمثابة عمليات تجميل افتراضية، كأن يلتقط الشخص لنفسه صورة، ثم يمررها عبر إحدى هذه التطبيقات، ويجري بعض التعديلات على البشرة، ولون العينين وحجمهما، وتصغير الأنف، ونفخ الشفاه، وتبييض الأسنان، وتحديد معالم الوجه، فضلاً عن إعادة نحت الجسم من خلال تكبير الصدر وتنحيف الخصر وإطالة الرقبة، وعند الرجال الجسد المفتول وعضلة المعدة المقسمة. وهذه التقنيات الكثيرة بكل وظائفها، أدت إلى شيوع ظاهرة تكاد تصل إلى المرضية، فأصبح عدد كبير من النساء والرجال ينشرون صورهم بشكل يومي إلى درجة أصابت قنوات التواصل الاجتماعي بتخمة الصور الزائفة.
أما المثير للسخرية في تداول هذه الصور المُجمّلة والخارجة من فرن تطبيقات الجمال أنها لا تشبه الحقيقة بشيء أو حتى قريبة منها، والمصيبة حين تلتقي بأحد تلك الشخصيات على أرض الواقع… فتصاب بالذهول! هم يعلمون أنهم ربما يلفتون نظر من لا يعرفهم فيسمعون كلاما غزلياً عن جمالهم الخلاب الأخّاذ، ولكن ماذا عن كل أولئك الذين يعرفون أشكالهم ويحفظون ملامحهم؟! ولا بد من الإشارة هنا إلى “الفيديو سيلفي” على “الإنستاغرام” حين يتم التقاط بعض اللحظات التي تتمثل في حركات غريبة للوجه والجسد تظهر في مجملها زائفة مثيرة للشفقة… والملاحظ أنهم لا يستمتعون في مناسباتهم وسهراتهم، وذلك لأنهم يقضون أوقاتهم يلتقطون الصور، ويتحملون عناء إيجاد اللقطات المناسبة، ويرتدون أثمن ما لديهم … فيبتسمون، ويضحكون، ويرقصون، ويُغنّون، ويمثلون السعادة وكل هذا من أجل صورة! ولكن لمن ولماذا؟ أمن أجل “لايك” من هنا ومن هناك؟ ألا يشعرون أنهم يلتقطون لأنفسهم الصور أكثر مما يَنظرون إلى أنفسهم بالمرآة.. وذلك لأن المرآة تعكس الصورة الحقيقة المرفوضة، أما الصور المحسنة، فهي مفرحة على الرغم من الزيف… ألا يعلمون أنهم مصدر سخرية وتهكم الكثيرون؟!
ما أكثرها الأسئلة التي تطرح نفسها في هذا السياق، وما هو رأي علم النفس في هذه الظاهرة؟ هل يعود هذا الأمر إلى اهتزاز الثقة بالنفس؟ الشعور بالنقص؟ حب الظهور؟ منافسة المشاهير ومحاولة التفوق عليهم حتى لو زيفاً؟ العودة بالزمن إلى الوراء والقيام بأمور لا يفعلها المراهقون والشباب في بداية حياتهم؟ المنافسة بين الأصدقاء لمن يحصل منهم على أكبر عدد من إشارات الإعجاب “اللايكات”؟ والأهم ما الذي يُريدون إثباته ولمن، أنفسيّ أم غيريّ؟ هل أرضت تلك التقنيات غرورهم؟ أما الإجابة الممكنة على تلك التساؤلات بمعظم مقاييسها لا يمكن أن تخرج من دائرة الاضطراب النفسي المرضي الاجتماعي.
إن هذا المقال لا يهدف إلى الانتقاد من أجل الانتقاد، ولكن يهدف إلى التوعية والتنبيه إلى أننا لم ننهل من التطور إلا قشوره، وكي لا نكون أضحوكة لمن نظنهم يضحكون لنا وهم في الحقيقة يضحكون علينا. وكم أتمنى لو أن هناك تقنية تنير العقل وتطور الفكر وتثقف النفس وتجمّل الأحاسيس وتطبق القناعة، فمهما كنت جميلاً، فلا بدّ هناك من هو أجمل، ومهما كنت ثرياً ستجد من هو أكثر ثراء… ومهما كثرت سهراتك ورحلاتك، سيبقى هناك من يتفوق عليك!
د. منى الشرافي تيم
قام بإعادة تدوين هذه على منى الشرافي تيم.