انتحر… قبل أن يعود الأمل!

 

الولادة والموت هما أمران قدريان بيد الله عز وجل، لا أحد يعلم توقيتهما غيره، والتمسك بالحياة والنضال من أجل البقاء غريزة فطريه ثمينة زرعها الله في النفس الإنسانية، تلك النفس التي تصارع كل الطوارئ من أمراض ومجاعات وحوادث وحروب، وتتأقلم مع تقلبات المواقف والظروف، وتتعايش مع التغيرات الطبيعية، وتتقبل الخسائر، وتخوض الرهانات، وتواجه التحديات، وتتحمل الآلام، وبعد كل كبوة تقف متحلية بالأمل ومؤمنة بالغد الأفضل، وكل ذلك من أجل حلاوة الروح التي وضعها الله في الجسد وكرّمه بها، فالجسد هو الوعاء الذي تسكنه الروح طالما انه المكان الذي يليق بها.

أما الأسئلة الكثيرة التي تطرح نفسها بعد هذه المقدمة الموجزة التي تتكلم عن حلاوة الروح ومدى تمسك النفس البشرية بالحياة، هو كيف يجرؤ ذلك الإنسان الضعيف، الذي تدعوه فطرته وطبيعته إلى البقاء أن يُقدم على اتخاذ قراره بالتخلص من حياته؟ هل يُتخذ هكذا قرار بعد تفكير وتخطيط وكثير من الجرأة والإرادة والتصميم؟ أم يُتخذ في لحظات من التخلي، والانفصال، وفقدان التوازن، وذهاب العقل، وموت الأمل، وانسداد الأفق؟ أم أنه قرار يهيأه الذهن المريض كونه مغامرة لسبر أغوار الغيب والمجهول وما وراء العالم؟ أو ربما تسجيل نقطة رفض واستنكار وتحذير في مرمى العالم والمجتمع والأسرة؟ ستبقى كل هذه الأسئلة وغيرها عالقة، والإجابات عليها اجتهادية تحليلية تقريبية نفسية لا يعلمها إلا الله والمنتحر، وقد يكون عند الأهل أو الأصدقاء المقربين أو الأساتذة أو زملاء العمل فكرة، ربما اتضحت صورتها ومدى خطورتها وجدتها بعد حصول الانتحار، ولكي نحصل على بعض الإجابات علينا البحث في آثار المنتحر، وكل ما كان يحيط به وجمع المعلومات وتسجيلها، ليس من أجل السبق الصحفي والإعلامي ونشر الفضائح، بل من أجل التوعية والانتباه ومحاولة تقديم المساعدة في وقتها كي تنقذ حياة إنسان ضعُفت نفسه.

أما إثارة موضوع الانتحار في هذا الوقت، فقد استدعاه ازدياد عدد المنتحرين في الوطن العربي، وخصوصاً في لبنان، حيث أظهرت الإحصاءات أن شخصاً واحداً كل ثلاثة أيام يحكم على نفسه بالموت وينفذ الحكم!؟ واللافت أن معظم المنتحرين هم من الشباب في عمر الزهور والفرح والعطاء والأمل والحياة. ويبقى سبب انتحارهم أُحجية متناثرة الأجزاء من الصعوبة في مكان تحديدها.

إن قرار الانتحار يحمل عدداً من التأويلات وعلى رأسها وأشدها خطراً هي تلك التي تشير إلى أن هناك خللاً  قد أصاب شخصاً ما، بسبب الضغوطات  النفسية، والاجتماعية، والمادية، والعاطفية،  مما أدّى به إلى الاكتئاب الذي يبدأ بالعزلة والانطواء، ويمر بطغيان مشاعر الخوف والقلق والاضطراب، ويصل إلى الانفصام والسوداوية. والنتيجة الطبيعية لكل ما سبق هو سيطرة فكرة التخلص من كل هذا العذاب والألم، وعندئذٍ تتفوق صورة الموت الذي فيه الخلاص، على صورة الحياة القاتمة المخيفة التي تندرج خلف ظلالها صور الفقر والبطالة والإحباط، وقلة الحيلة والوسيلة، وفقدان الذات والتوازن، وضياع الأمل…

أما التأويلات الأخرى التي من شأنها أن تؤدي إلى الانتحار فكثيرة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، الانفلات الأمني المدروس بالتواطؤ مع تجار الموت، حين سهّل انتشار المخدرات، وحبوب الهلوسة، والحبوب المهدئة والمنشطة في الشوارع والمدارس والجامعات، بأساليب مبتكرة، تصل بالشباب إلى الإدمان، وتقضي على شبابهم، وتدمر تركيبتهم البيولوجية والنفسية والعقلية، فيُقدِمون دون وعي منهم على فعل كالانتحار، لأنه النتيجة الطبيعية لكل هذا الدمار والحطام والفوضى. ومنها ضياع الهوية الجنسية، فيحيا الشخص في صراع داخلي بين ما هو عليه وما يجب أن يكون، فلا يستطيع البوح والخروج إلى العلن خوفا من المجتمع، ولا يجرؤ على استشارة معالج نفسي خوفا من أن يُكتشف أمره أمام أسرته. ومنها أن تُقدم فتاة على الانتحار حين يجبرها الفقر على استخدام جسدها كي تسد حاجتها وفي معظم الأوقات حاجة أسرتها، فيحصل الصراع بينها وبين جسدها فتنفصل روحها عنه نفسياً، ثم لا تلبث تلك الروح أن تلفظ ذلك الجسد فتحكم عليه بالموت، كي تطهر روحها منه.

إن الأسباب التي من شأنها أن تؤدي إلى الانتحار كثيرة، وعديدة هي الطرق التي قد تمنعه. فتبدأ بقيام الأهل بواجباتهم تجاه أولادهم من خلال المراقبة والاهتمام بكل أمورهم وعدم الانشغال عنهم، واعتماد الحوار والمصارحة. ويليها دور المؤسسات التعليمية المدرسية والجامعية التربوي التثقيفي الانفتاحي قبل التعليمي التلقيني التحصيلي التجاري. أما الدور الأكثر أهمية، هو دور الوطن وحكامه وحكوماته وكل من هم على سدة القرار والمسؤولية، فبدل أن ينشغلوا بصفقاتهم وتجارتهم ومكاسبهم، فلينشغلوا من أجل منح المواطن حقه في العيش بكرامة فوق التراب لا تحته.

وأخيراً أودُّ أن أتوجه إلى الشباب العربي بشكل عام، والشباب اللبناني بشكل خاص، أن تتحدّوا من يريدونكم أمواتاً بالعيش…! وتسلحوا بشبابكم وعنفوانكم وحيويتكم وقدراتكم، واشحنوا طاقاتكم الإيجابية كي تتمكنوا معاً من إحداث التغيير، لأنكم تستحقون الحياة والعيش لا يليق إلا بكم!

د. منى الشرافي تيّم   

About monaat

منى الشرافي تيم فلسطينية الأصل والجذور أردنية الجذع والفروع لبنانية الثمر والزهور ابنة الوطن العربي...فخورة بعروبتي عضو في اتحاد الكتاب والأدباء الأردنيين عضو في المنظمة العالمية لحوار الحضارات في العالم إصدارات: عدد 8 روايات: وجوه في مرايا متكسرة مرايا إبليس مشاعر مهاجرة وجدانيات: حروف من نور كالمنى اسمي نقد أدبي: أدب مي زيادة في مرايا النقد الجسد في مرايا الذاكرة أدب الأطفال: العربيزي والجدة وردة الإصدارات عن الدار العربية للعلوم ناشرون - بيروت المؤهلات:دبلوم في هندسة الديكور والتصميم الداخلي:الأردن دبلوم في إدارة الأعمال:إنجلترا ليسانس ودبلوم دراسات عليا في اللغة العربية وآدابها ماجستير في اللغة العربية وآدابها تخصص نقد أدبي واجتماعي, جامعة بيروت العربية بعنوان: "أدب مي زيادة من منظور النقد الأدبي والاجتماعي درجة الدكتوراه في اللغة العربية وآدابها تخصص نقد أدبي حديث (جامعة بيروت العربية) بعنوان: "الفن الروائي في ثلاثية أحلام مستغانمي دراسة تحليلية نقدية"
هذا المنشور نشر في عام. حفظ الرابط الثابت.

الرجاء ترك تعليق

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s