إن الدساتير في كل دول العالم.. تسن: أن المسؤول وُجِد من أجل المواطن… أو على الأصح في خدمته.. ولكن ماركتنا العربية المسجلة هي (مُت أيها المواطن.. كي أحيا أنا المسؤول)!
نحن الكتاب نتحايل في معظم الأوقات على الظروف وعلى الناس بالكلام المنمق المُنتقى بحرفيّة ودقة، في محاولة منا لتجميل الواقع، وذلك من خلال الفرار إلى عالم الأحلام والخيال، فنترجم الكلمات، ونرسمها شعراً، ونلونها بالمشاعر والأحاسيس.. وقد ننجح للحظات قليلة فقط! تماما كحبة المسكن أو المهدئ، ولكن سرعان ما يذهب مفعولها، لأن ألم الواقع حقيقة أقوى من الأحلام وأسرع من الخيال وأعمق من الكلمات.
المواطن العربي في أوطانه العربية من الدرجة العاشرة أو أدنى، فهو موجود فقط من أجل أن يكون خادماً لمسؤول ما، أو فِداء له…. وقد يكون هذا المواطن عدداً لازماً عند اللزوم، وما يلبث أن ينتهي لزومه، أو عدداً زائداً فاض بحاجته للعيش وأصبح عبئاً على المسؤول بفقره، ولكنه بكل تأكيد ليس عدداً ناقصاً.
من يقرأ عنوان هذا المقال سيظن للوهلة الأولى أن المقالة سياسية بامتياز… ولكن سرعان ما سيكتشف أنها مقالة إنسانية ونفسية وحقوقية، تعنى بأحوال الناس وأعصابهم وراحتهم المُضحى بها كل يوم على مدار السنة، ولكنها تزداد سوءاً في مواسم الأعياد، أو حين تزورنا الطبيعة في فصل الشتاء بإحدى عواصفها المؤنثة.. (أليكسا، زينة، أو هدى)، والتي أقترح في السنوات القادمة خصوصاً في لبنان أن تُسمى على اسم المسؤول الذي يُقفل من أجل سلامته وأمنه أكبر عدد من الطرقات والشوارع التي تحيط بمكان سكنه أو مكتبه.
إن القضايا التي يعاني منها المواطن العربي في وطنه لا تُعد ولا تُحصى، والكلام عن قضية ما لا يشير بالضرورة إلى أنها القضية الأكثر أهمية، بل يدل على أنها القضية الوقتية!
لقد عاشت مدينة بيروت الشهر الماضي (ديسمبر) شهر الأعياد، زحمة سير قاتلة لم ينفذ من براثنها كل من تواجد على أراضيها في ذلك الوقت… فقد قضى الناس بالحساب الزمني ثلاثة أرباع الشهر على الطرقات، أما في حساب الأعصاب.. فقد.. أصبحوا في حاجة ماسة إلى الطب النفسي، مما أدّى إلى زيادة الطلب على أدوية الأعصاب والمهدئات، التي كان لها جانباً إيجابياً مهماً، لأنها حسنت الوضع الاقتصادي للبلد. كما أنها أخرجت في الوقت نفسه أسوأ ما في داخل البشر، فقد خرج بعضهم في كثير من الأحيان عن طورهم، وتطاولوا بالشتائم على آخرين، يعيشون نفس الظروف ويتجرعون الكأس المرّ نفسه، أو تذاكي بعضهم حين ظنوا أنهم قادرون على الطيران فوق السيارات. فالوجهة التي كانت بحاجة إلى عشر دقائق بالسيارة للوصول إليها، كانت تستغرق ما بين الساعتين والنصف وبين الثلاث ساعات على الأقل… وهنا تجلّى العدد الزائد للبشر في أوضح صوره وأشكاله. ولو أن في إحدى تلك السيارات العالقة مريضاَ حالته حرجة في طريقه إلى المستشفى، فلن يصل، لأن أمامه طريقتين فقط لا ثالث لهما، الأولى مستحيلة غير وارد حدوثها، هي: أن تأتي النجدة من السماء بواسطة طيارة هليكوبتر. والثانية هي الوارد حدوثها: أن تأتي أيضاً من السماء عن طريق ملاك الموت (عزرائيل). أما السؤال الشرعي الذي قد يطرحه المسؤول هنا، هو: “لم كل هذه الأعداد من البشر والسيارات، على الرغم من أن القلة القليلة منهم من يلزم”؟
إن الذي أدّى إلى تصوير الواقع بهذه اللهجة الأدبية الساخرة، هو أن زحمة السير المقيتة الخانقة في ذلك الوقت كان مقدوراً عليها أو من الممكن تخفيف وطأتها على المواطنين لو تنازل المسؤول، وتكرم، وتعطف، وسمح فقط في فترة الأعياد، بفتح الطرقات المسدودة حول معبده، شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً، وذلك لأن معظم الطرقات المسدودة هي منافذ حيوية في قلب العاصمة، والمواطن بحاجة إلى أن يلف حول نفسه مراراً كي يصل إلى وجهته. ولو فُتحت بعض تلك الطرق أو كلها لسهلت أمور الناس.. وحياتهم كانت أفضل.
المسؤول في كل مكان في العالم المتحضر، وُجد لخدمة المواطنين وراحتهم وأمنهم، إلا في عالمنا الذي يُعدُّ أكثر حضارة (من غير الشر)، فالمسؤول فوق البشر، أما المواطن، فعشبة برّية وُجدت على قارعة الطريق.
وأخيراً وليس آخراً، يجب الإضاءة على موضوع آخر على جانب كبير من الأهمية يخص المسؤول والمواطن على الطريق، وهو حظ المواطن التعيس المغضوب عليه، أن يتزامن تواجده في سيارته على إحدى الطرقات مع مرور موكب (المسؤول)… لا أدري كيف يتجرأ ذلك المواطن ويبقى على الطريق، فعليه أن يُخلي الطريق فوراً، مهما كان وضع السير، يذهب إلى الشمال قبل أن يؤمن طريقه فيصطدم بسيارة أخرى، أو إلى اليمين فيصدم مواطناً يسير على قدميه، غير مهم النتيجة.. إزهاق روح أو إحداث عاهة لِآخر .. المهم أن يمرّ المسؤول.
بالروح بالدم بالأعصاب نفديك يا مسؤولنا العربي….!
د. منى الشرافي تيم