إن اللغة الأم في حياة كل الشعوب، لا تقتصر على عملية الحوار والخطاب والإفهام وإيصال المعلومة والمعاني فقط، بل هي ما يميز الإنسان عن غيره من الكائنات الحية، ولذلك حرصت الشعوب على مدى القرون والعصور، حرصاً شديداً للحفاظ على لغاتها واستمرارها، لأنها تشكل الهوية والمرجع للشخص الذي ينتمي إليها.
إننا في عصر العولمة والتكنولوجيا والإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي، نواجه حرباً تهدد اللغة العربية، وتزعزع ألسنة المتكلمين بها، خصوصاً فئة الجيل الجديد الشاب، الذي بات يفضّل تعلّم اللغات الغربية والتواصل بها، خصوصاً اللغة الإنجليزية. ونحن اليوم نقف شبه عاجزين أمام هذا المد التكنولوجي، الذي يجعلنا لا نفكر إلا بكيفية الحفاظ على لغتنا وترغيب أبنائها بها وجذبهم إليها، بدل أن يكون شاغلنا الأكبر، كيف نسير بها قُدما كي تزدهر وتواكب متغيرات العصر وتفي بمتطلباته.
إن ثورة الاتصالات الإلكترونية والتقنيات التكنولوجية العصرية، وتنامي استخدام شبكات التواصل الاجتماعي، كل هذا أدّى إلى بزوغ لغة مكتوبة جديدة، هي “اللغة العربيزية”، لغة الشات ..التي تمّ نحتها من كلمتين: “عربي إنجليزي”، إنّها اللغة العصرية، التي بدأتْ تحلّ محلّ اللغة العربية وتمسخها، وهي تعتمد على تحويل الحروف العربية إلى حروف إنجليزية، وأرقام تحل محل الحروف التي لا يوجد لها مقابل في الإنجليزية، ولكنها تشبه الحروف العربية في الشكل أو الصوت.
ما هذا التخلي عند الجيل الجديد عن كل ما هو عربي، لغة وحضارة وثقافة وتاريخاً؟ ما الذي أوصلنا إلى هذه الحالة؟ أهي التكنولوجيا الغربيّة التي اطّلع عليها الغرب وتمتع بالتسهيلات التي قدمتها له قبل أن تصلنا بأشواط؟ إن كانت التكنولوجيا هي السبب، فلماذا لم تعرِّ الغربيين كما عرّتنا؟ إن كل الظواهر تشير إلى أنهم نهلوا من نواتها ولبّها، ونهلنا قشورها، حين اعتمد شبابنا العربي التقليد العشوائي باندفاع وصدرٍ مفتوح.
إن الظواهر الطارئة عادة لا تأتي من فراغ، فقد تكون امتداداً لحدث تاريخي، أو ظاهرة حدثت في الماضي البعيد أو القريب شبيهة بها، وقد تمّ استحضارها وإحياؤها، حين تأمنت لها الأرضية الخصبة والحاجة، لتظهر على الملأ من جديد في حلّة جديدة تتماشى مع الظروف أو أحوال العصر الذي ظهرت فيه مجددا، وكأنها نوع من التقمص، أو الاستنساخ المعدل.
بعد سقوط غرناطة قام “الموريسكيون”، وهو اسم أُطلق على العرب والمسلمين باستخدام لغة جديدة أُطلق عليها اسم اللغة “الخمياديّة” أو “الألخميادو”، وهي لغة مهجنة جمعت بين اللغة العربية وبين اللغة الإسبانية، مكتوبة بحروف عربية، كي يحفظوا لغتهم، وذلك بعد أن أصدر فيليب الثاني من إسبانيا، أمراً ملكياً أجبر فيه العرب والمسلمين على ترك استخدام اللغة العربية كلاماً وكتابة، واعتبر أن استخدام اللغة العربية في أيّ ظرف يُعدُّ جريمة. وهذا الأمر يدل على أن الحاجة هي أم الاختراع، ولكل ظاهرة غريبة ظروف أكثر غرابة منها، وتستمر أو تنتهي باستمرار أو انتهاء الظروف التي أدت إليها.
أما بعد سقوط الدولة العثمانية، في نهايات عشرينات القرن العشرين، قام مصطفى كمال أتاتورك، باستبدال الحروف العربية بالحروف اللاتينية في الأبجدية التركية، وطلب من مواطنيه تعلّم الحروف الجديدة، وذلك للمحافظة على اللغة التركية القومية من وجهة نظره.
لو نظرنا إلى تلك التجربتين، التجربة الأسبانية والتجربة التركية، لوجدنا أن شبهاً كبيراً يجمعهما بظاهرة اللغة العربيزية، ولكن الفرق الكبير بينهما، في أن التجربة الإسبانية استعمارية فرضت سياسة أمر واقع، وأن التجربة التركية هي سقوط دولة عظمى تغيّر فيها مجرى الحكم والسياسة، ولكن التخلّي في تينك الحالتين، كان إجبارياً وأمراً واقعاً؛ ولكن ما نواجهه اليوم مع ظاهرة اللغة العربيزية، هو أنها نوع من التخلي والاستبدال الإرادي، الذي هو أخطر بكثير من التخلي الإجباري والمفروض، لأنه يعني الرضا والقبول والتعايش مع الحالة الجديدة، ولأنها كذلك فهي قابلة للتطور.
أما شيوع بعض الأفكار الخاطئة بين الناس في الوطن العربي وتبنّيها، فهي من أهم أسباب توسّع رقعة ظاهرة اللغة العربيزية وانتشارها؛ لأن هناك من يخجل من التواصل باللغة العربية، على اعتبار أنّها وجهٌ من وجوه البدائية والتخلّف، حين صدّقوا أن إتقان اللغات الأجنبية والتحاور بها، هو وجه من وجوه الحضارة والتطوّر والرقي.
إن أسس اللغة العربية في الأذهان العربية أصبحت ركيكة جداً، فنجد أن مؤتمراتنا العربية التي تقام في الوطن العربي لا تتكلم باللغة العربية، وذلك لأن ضيوفاً أجانب يحضرون تلك المؤتمرات، فيجب أن نتكلم لغتهم، ومن لا يُجِد من العرب اللغة الأجنبية داخل المؤتمر، يجب عليه أن يضع سماعات التعريب على أذنيه.
” إذا كان ربُّ البيتِ للدفِّ ضارباً فشيمةُ أهلِ البيت كلِّهم الرقص”.
د. منى الشرافي تيّم
-
أحدث التدوينات
My Twitter
- https://t.co/ghEow3IYDQحوالي 1 week ago
- أمّي.. ثم أمّي.. ثم أمّي.. monaalshrafi.com/2023/03/21/%d8… via @MonaTayim لأن الأم في حياتها كبيرة جداً، ولكنها حين تغيب تصبح أكبر!!حوالي 1 week ago
- أمّي.. ثم أمّي.. ثم أمّي.. monaalshrafi.com/2023/03/21/%d8…حوالي 1 week ago
- https://t.co/2f9JcoqTkiحوالي 1 week ago
- ثقافي / معرض الشرقية للكتاب 2023 يُنظم مؤتمر الطفل الأول spa.gov.sa/2432850 التغطية الصحفية لمؤتمر الطفل… twitter.com/i/web/status/1…حوالي 2 weeks ago
الأرشيف
- مارس 2023
- فيفري 2023
- نوفمبر 2022
- مارس 2020
- جانفي 2020
- نوفمبر 2019
- جويلية 2019
- أفريل 2019
- مارس 2019
- جانفي 2019
- ديسمبر 2018
- نوفمبر 2018
- أكتوبر 2018
- سبتمبر 2018
- جويلية 2018
- جوان 2018
- ماي 2018
- مارس 2018
- جانفي 2018
- ديسمبر 2017
- نوفمبر 2017
- سبتمبر 2017
- أوت 2017
- جويلية 2017
- جوان 2017
- ماي 2017
- أفريل 2017
- مارس 2017
- فيفري 2017
- جانفي 2017
- ديسمبر 2016
- نوفمبر 2016
- أكتوبر 2016
- سبتمبر 2016
- ماي 2016
- مارس 2016
- جانفي 2016
- ديسمبر 2015
- نوفمبر 2015
- أكتوبر 2015
- سبتمبر 2015
- أوت 2015
- جويلية 2015
- جوان 2015
- ماي 2015
- أفريل 2015
- مارس 2015
- فيفري 2015
- جانفي 2015
- ديسمبر 2014
- نوفمبر 2014
- أكتوبر 2014
- سبتمبر 2014
- أوت 2014
- جويلية 2014
- جوان 2014
- ماي 2014
- مارس 2014
- فيفري 2014
- جانفي 2014
- ديسمبر 2013
- نوفمبر 2013
- أكتوبر 2013
- سبتمبر 2013
- أوت 2013
- جويلية 2013
- جوان 2013
- ماي 2013
- أفريل 2013
- مارس 2013
- فيفري 2013
- جانفي 2013
- ديسمبر 2012
- نوفمبر 2012
- أكتوبر 2012
- سبتمبر 2012
- أوت 2012
- جويلية 2012
- جوان 2012
- ماي 2012
- أفريل 2012
التصنيفات
منوعات
-
انضم مع 31٬828 مشترك
أشفيت غليلي ..
استمتعت جداااا بقراءة الموضوع ..
دمت بخير