صباح الخير أصدقائي الأعزاء
البروفسور الفيلسوف نسيم شلهوب يكتب عن روايتي “وجوه في مرايا متكسرة” اليوم في جريدة الأنوار اللبنانية بعنوان:
وجوه في مَرايا مُتكسِّرة… روايةٌ تُفجِّرُ فيلسوفًا
http://www.alanwar-leb.com/article.php?categoryID=10&articleID=203420
وجوه في مَرايا مُتكسِّرة… روايةٌ تُفجِّرُ فيلسوفًا
د. نسيم شلهوب
نِتاجُ العقلِ فلسفة ٌ، ومنَ المَنطقِ يخرجُ علمٌ.
قد يتعالى هذا وذاك فوقَ أنسامِ العاطفةِ، وعصفِ الوجدان.
قد تتكسّرُ مَرايا، تتشظّى وجوهٌ، تُشوَّهُ رؤًى، تتزحلقُ مُعتقداتٌ، تزولُ قناعاتٌ وتبقى العاطفة ُ في نأيٍ عن كلِّ ذلكَ، لها في ذاتِها ما يُحرِّكُها وما تتميّز ُبهِ، تشبكُ القلوبَ، تُسعِدُها تُدميها، تجمعُها تُفرِّقُها، تُحييها بنبضٍ غريبٍ لا مَثيلَ لهُ، يُضني ويُفرِحُ في آنٍ معًا، تُميتُها تسلبُ منها الشّعورَ ولا نبضَ ولا إحساس، جَفنٌ لا يرفُّ، وعن السّببِ لا تسَل.
بينَ المُتعالي، وشفيرِ العصفِ العاطفيّ المُتلاعبِ بالوجدان، المُتسلّلِ خلسة ً، يُسعِدُ بلحظةٍ، يقضُّ المَضاجعَ ساعةَ يشاء، ومن غيرِ إنذارٍ أو توقّع، سقطتْ في يدِ الفيلسوفِ رِواية ٌوجوه في مَرايا مُتكسِّرة ل مُنى الشّرافي تيّم غرابتُها وعناصرُ التّشويقِ فيها، تبدأُ قبلَ أن يُفتحَ الكِتاب.
كِتابٌ أنيقٌ، غِلافهُ لوحة ٌ اختلطت فيها الألوانُ كقوسِ قُزحٍ، كأنّها بين الخالقِ والمخلوقِ عهدُ سلامٍ وإشارةُ رضوان.
ليسَ هذا كلّها، لأنّكَ بإمعانِ النّظرِ في تفاصيلها تأخذكَ في رحلةٍ هوجاءَ هادِئةٍ، صاخِبةٍ مُتّزِنةٍ، قد ترى فيها الطّيرَ في فضائهِ، والبحرَ في هياجهِ ، الضّوءَ في مَداهُ وانعِكاسهِ، أو في إشعاعِهِ وانسِيابهِ، تأخذكَ إلى البعيدِ إلى أحضانِ الألوهةِ.
وقبلَ أن تفتحَ الكِتابَ، تُطالِعُكَ كلماتٌ بسيطةٌ في ذاتِها، جميلة ٌ في تركيبها، عميقةُ الغَورِ في معانيها، تبدأ ب :وجوهٌ ، والكلُّ يعلمُ ما لعالَمِ الوجوهِ في الفلسفةِ من أعماقٍ ومَعانٍ، فالوجوهُ هي الهويّةُ المُميِّزةُ، وهي وسيلة ُ التّعارُفِ والتّواصلِ الأولى والوحيدة. إنسانٌ من غيرِ وجهٍ هو إنسانٌ لا ملامحَ له، يبقى نَكِرةً، وما من شيءٍ آخر يستعيضُ بهِ عن عدميّةِ وجودهِ.
لا تقفُ الكاتبةُ كثيرًا أمامً الوجوهِ ، على أهميّتِها، ولا تنظرُ إليها نظرةَ فيلسوفٍ، بل من خِلالِ مَرايا مُتكسِّرة، فتراها مُتعدِّدةً، مُشظّاةً ، على بعضِ تشوُّهٍ، كما هي حالُها في مَرايا الحياةِ الكثيرةِ الّتي تكسَّرتْ بفعلِ رزايا الدّهرِ، وتشظَّتْ تحتَ وطأة الزّمانِ والقَدَرِ.
الحياة الرّواية
باكتمالِ العنوانِ تكاملَ مَشهدُ الحياةِ الرّوايةِ بكلِّ تناسقها وتناقضاتِها، بفائقِ سعادتِها ومرارةِ أقدارِها، بغرابَتِها وغموضِها، بعقلانيّتِها وتهوّرها، بصعوبتِها وحظوظِها، برتابَتِها و تنوّعها، بقدَرِها العاصف وهدوئها المُملِّ.
في كَثرةِ المَرايا وازدِيادِ تكسُّرها يكمُنُ سرُّ تعدُّدِ الصّورِ وتكاملِها وتنافرها، فتنجَلي مَباهِجُها أو تتراءى مَرارةُ مآسيها.
يُستكمَلُ المَشهدُ، يُستنفَرُ الفيلسوفُ، ينقضُّ على مُحتوى الكِتابِ انقضاضَ نسرٍ وقعَ على صَيدٍ مُكتنزٍ بعدَ حرمانٍ مُزمنٍ.
وقبلَ أن يفتحَ الكِتابَ ليُمتِّعَ ناظِرَيه بشَغَفِ القِراءةِ، تذكّرَ أنَّ هذه الرِّواية لم تأتِ، بين يديهِ ، عفوًا، ولا هي ارتَمَتْ مع غيثِ السّماءِ، بل حَمَلتها مَن بأنامِلَ رشيقةٍ أشبعتها نحتًا ودقًّا، رِوائيّة ٌ جميلة شفّافة ، تفيضُ إحساسًا، تُتقِنُ صناعةَ الحَرفِ، رَصفَ الكلماتِ، صياغة َ العِباراتِ، بثَّ أصدقِ العواطفِ وألصَقِها بالوجدانِ البشريّ، وجَعلها تُدغدغُ مَشاعِرَ القارئ على حينِ غرّة.
لِفَرطِ حِرصِها، أبَتْ هذه الكاتبة المُرهَفة ُ إلّا أن تحملَ عُصارةَ فكرِها، والتِماعاتِ قلمِها بينَ أناملَ عَمِلتْ على رَسمِ كلِّ حرفٍ وتدبيجِ كلِّ كلمَةٍ، ورصفِها في قوالِبَ أدبيّةٍ توغِلُ بعيدًا في مُلامَسَةِ مَشاعِرَ عميقةٍ تهزُّ الكيانَ البشريَّ، تُفقِدُ العقلَ اتِّزانَهُ، تَعصِفُ في خَلدِ العاشقين.
فتحَ الفيلسوفُ الرِّوايةَ، وكأنّهُ لقدسِ الأقداسِ يقتحم.
لوحة ُ الغِلافِ والعنوان، اسمُ المؤلِّفةِ و ال مُنى، أمورٌ تضافرَتْ لتؤلّفَ صورةَ ما قد يكتنزَهُ الكتابُ، ويُعطيهِ هالة َ التّقديرِ والاحترام.
حقيقةٌ وخيالٌ
هكذا راحَ شغفُ الفيلسوفِ يطوي الصّفحاتِ، ومع تواليها بدأ بين الفلسفةِ والرِّوايةِ صِراعٌ وتناغمٌ، تضادٌ وتآلفٌ، حقيقة ٌ وخيالٌ، مَنطقٌ يسعى وعاطِفة ٌ تثور، عِلمٌ يبحثُ وأهواءٌ لكلِّ المَعوقاتِ تجتاح وبالمَمنوعاتِ لا تعترف، بحث ٌ في الماورائيّاتِ المُنتظراتِ، وصولًا إلى النّفسِ وخلاصِها، يُقابلُهُ عَصفُ عاطفةٍ لا يرحم، ولا يسأل عن سببٍ، ولا ينتظرُ مُبرّرًا، المَنطِقُ لا يعنيهِ، الآخرةُ مُستبعدةٌ ولا اكتراثَ بخلاصٍ، وكلُّ ما يعنيهِ ارتِجافُ قلبٍ في حضنِ مَحبوبٍ، واختلاجُ جَسدٍ على شَفَةِ حبيبٍ. هُنا ينهزمُ العقلُ، يسقط ُ المَنطقُ، تتراجَعُ الإراداتُ، يأخذُ الوجدانُ استِراحة َ نقاهةٍ، يعلو صهيلُ الرّغبةِ، تتعطّلُ الموازين.
لم يسبقْ لفيلسوفِنا أن اقتنصَ أسرارَ ومَعالِمَ روايةٍ كما فعلَ بالرّوايةِ الّتي بين يديهِ، ولم تحفرْ رواية ٌ في مَزاجِهِ الفلسَفيِّ مثلما فعَلتْ هذه الرّواية، لِماذا ؟ الجوابُ يكمنُ ببساطَةٍ فوقَ تلكَ الصّفحاتِ الّتي انهمَرَ عليها بحثًا وتشريحًا، فألفاها مُحكمَة َ السّبكِ، غنيّة َ الأحداثِ، لا تتركُ للقارىءِ لحظة فيها يرتاحُ فضولُهُ، أو ليَبتردَ ويهدأ شغفهُ، ولا يكمنُ غِناها في أحداثِها فحَسب، بل يتعدّاها إلى فائضٍ منَ العاطفةِ يعتمرُ في ذاتِ الكاتبةِ، سكبتهُ عبرَ أناملِها إحساسًا دفّاقًا، كانَ كافيًا ليطبعَ شخصيّات روايتِها بالحبِّ والجمال، ويُضفي على روعةِ السّردِ وسلاسَةِ اللّغةِ شعورًا جميلًا نادرًا يستدرُّ دمعَ القارىء رغمًا عنهُ.
اجتهدَتْ الكاتبة مُنى الشّرافي تيّم في أن تكونَ واقعيّة في تقديمِ أحداثِ روايتِها، أضاءتْ على أمورٍ حياتيّةٍ فائقةِ الحساسيّةِ والدِّقّةِ، بلُغةٍ رشيقةٍ مِطواعةٍ تنضحُ إحساسًا، تفيضُ رقّة .
ومع ارتفاعِ عددِ الصّفحاتِ المقروءةِ يتكاملُ عندَ القارىءِ مَشهدٌ رومنسيٌّ رائعُ الجمالِ، دقيقُ التّصويرِ، فائقُ الوضوحِ. يُخيّلُ إليهِ وكأنّهُ في حَفلٍ راقصٍ، يؤدّي فيهِ المَدعوّونَ أدوارهم بتناسُقٍ وانتِظامٍ وفرح.
منطقٌ، فلسفةٌ وعاطفة
أبطالُ المرسَحِ ثلاثة ٌ أساسيّون، أدوارهم بطولية ٌ، وجودهم مَحسوسٌ على غيرِ ظهور، إلى جانبٍ أبطالٍ آخرين يدورونَ في فلكهم لتكتملَ روعةُ المَشهدِ.
منطقٌ، فلسفة ٌ، عاطفة ٌ هؤلاءِ هم أبطالُ مُنى وأعمدةُ مرسحِها، يُخيّلُ إليكَ وكأنّ الأوّلَ والثّانية قد تعانقا في رقصةِ تانغو وحّدت بينهما، فيما راحتِ العاطفة ، وقد أشعلتِ الغيرةُ أحشاءها، تُراقصُ جميعَ أهلِ المرسحِ والرّوايةِ.
بين المنطقِ والفلسفةِ وِئامٌ وانسجامٌ لم يبرحا عالمَهما مدى الدّهر، لكنّكَ في هذه الرّوايةِ تخالُهما يلتقيانِ بعدَ طولِ بُعادٍ أجّجَ مَكامنَ الشّوقِ وأشعلَ جمرةَ الوجدان.
وفي تراقصِ العاطفةِ تَظهرُ غيرتُها واضحة إزاءَ تكاملِ واتزانِ العنصرين الأوّلين، اللّذين بتآزرهما كانا سببًا ونتيجة لِما أبدعتهُ البشريّة ُ في كلِّ حقلٍ ومَيدانٍ، فأخذتْ لِذاتِها وجوهًا تبني على قلقٍ، واُخرى تهدِمُ على ثقةٍ، ولم تستثنِ الوجوهَ الحائرةَ المُتردِّدة الّتي لا تدري إلى أيّ مَصيرٍ تقودُ مَن تقود.
حيثيّاتُ الرِّوايةِ، أحداثُها وأبطالُها، حوافزُ اجتمعتْ لتُفجِّرَ لدى فيلسوفِنا حكمةً تقول:
– فلسفةٌ ٌ لا عاطفةَ فيها، فكرٌ من غيرِ قلب، وهذا يُميتُها.
– عاطفة ٌ لا مَنطقَ فيها هي قلبٌ لا رُشدَ فيهِ وهذا جنونٌ مُطبِقٌ.
– والحياةُ مزيجٌ مُتكاملٌ، نرجوهُ يصبو إلى حلاوةِ عالَمِ الرّوايةِ الّتي من عنوانِها حتّى الخِتام تبثُّ الدّفءَ في القلوب، تبعثُ الأملَ في النّفوس، تنشرُ الحكمةَ على ألسِنةِ أبطالِها أنّى ارتحلوا، تُظهرُ المحبّة َنِظامًا يُحتذى، تجعلُ الوفاءَ سِمة ً تحكمُ مُعظمَ الوقائعِ والأحداث، ولم تفتها مزيّة ُ التّعاونِ في تخطّي المُلمّاتِ واجتياز العقبات، ولم تنسَ ما للتّقاعسِ وللشّرِّ من سوءِ أثرٍ في المُجتمعاتِ وتطوُّرها.
هكذا أتى العملُ مُتكامِلًا ، مُستفزًّا للعقلِ ونِتاجهِ، مُحرِّكًا للعاطفةِ ولالتِماعاتِها، مُلامسًا الوجدان، يُداعبُ النّفسَ بحنان، يدخلُ الأعماقَ خلسة ، يستقرُّ في الذاكرة, يبعثُ على الأمل.
That’s really thinking out of the box. Thanks!