إن موضوعَ الكتابةِ للطفل، هو موضوعٌ شائكٌ متفلّتٌ من إمكانيةِ الإحاطةِ به من جوانبهِ المتعددة، وسُبلهِ الواسعة، كما هي الطفولةُ تماماً، متقلبةٌ، متغيرةٌ، وغيرُ متوقعة. والكاتبُ للأطفال، في مختلفِ مراحلِهم العمرية، والعقليةِ والذهنية، والبيئية، والتعليمية، بحاجةٍ إلى أن يكونَ في أعماقه، طفلاً، وطبيباً نفسياً، ثم أديباً يجيدُ فنَّ الكلام، كي يتمكنَ من سبرِ أغوارِ تلك العقولِ الصغيرةِ الحائرةِ والمحيِّرة، وتلبيةِ جميعِ مناحيها، بالإضافةِ إلى الوقوفِ عند تطلعاتِها وتوقعاتِها، ومواهبِها واهتماماتِها، وتبايناتِها، وقدراتِها، ومقدراتِها، والأهمُّ من ذلك كلِّه، هو التكلمُ بلغتِها، هذه اللغةِ الجامعة، التي تذوبُ عندها كلُّ الاختلافاتِ والخلافات.
محورُ الكتابة للطفل
لذلك، سأتناولُ محورَ الكتابةِ للطفلِ في الوطنِ العربي، من خلالِ بعدينِ رئيسيّين هما:
البعدُ النظريُّ في مزاوجةٍ مَرِنة، بالبعد التطبيقي العمليّ على روايةِ “العربيزي والجدة وردة”.
ولكن قبلَ الولوجِ في دراسةِ البعدين النظريِّ والتطبيقيِّ للكتابةِ للطفل، علينا الاطلاعُ على ثلاثةِ محاورَ أساسيةٍ، لتتسنّى لنا عمليةُ الفهمِ والتقويم:
المحورُ الأول: مفهومُها، نشأتُها وتطوّرُها.
مفهومُها:
إن تحديدَ مفهومِ الكتابةِ للطفلِ أمرٌ بعيدُ المنال، ولكن ما قد لا نختلفُ عليه، أو يُشتبهُ علينا، هو مدى أهميتِها وتأثيرِها، فالكتابةُ للطفلِ وخصوصاً الفنيّة منها يجب أن تكونَ متحررة من المعقولِ والمنطقِ في جموحِ خيالِها، تعتمدُ على الحدسِ الغامضِ وشحنِ المشاعر. وهي بشكلٍ عام وسيلةٌ أساسيةٌ تعليمية، وإبداعيّة، على جانبٍ كبيرٍ من الحساسيةِ والخطورة، فهي تُسهِمُ بشكلٍ مباشر، أو غيرِ مباشر، في تنميةِ الطفولة، وتأسيسِ بنائِها، وتحديدِ شخصيتِها سلباَ أو إيجاباً، وبالتالي، تتكونُ صورةُ المجتمعِ الناتجِ عنها وتتشكل، وهي بذلك، كأنها عمليةُ خلقٍ بشريٍّ جديدٍ على هيئةِ ما نقدمُه لها، ونوعٌ من إعادةِ التأهيلِ والتكوين، وبالتالي، فهي مسؤوليتُنَا، وعلى عاتقِنا وحدَنا تقعُ نتائجُها.
نشأتُها وتطورُها:
بدأ الاهتمامُ بالكتابةِ للطفلِ في القرن السابعَ عشرَ في فرنسا، على يدِ الشاعرِ الفرنسيِّ “تشارلز بيرو” الذي كتبَ تحتَ اسمٍ مستعار، مجموعةَ قصصٍ بعنوان: “حكايات أمي الإوزّة”، وحين نالتْ نجاحاً لم يتوقَّعْهُ، تشجّعَ وكتبَ مجموعةً قصصيةً أخرى بعنوان: “أقاصيص وحكايات الماضي” ولكنْ تحتَ اسمِهِ الحقيقيِّ هذه المرّة؛ ثمَّ حذتْ إنجلترا حُذوَ فرنسا في الكتابةِ للطفل، حينَ ترجمتِ القصصَ الفرنسيةَ إلى اللغةِ الإنجليزية، إلى أن جاءَ “جون نيوبري” الذي يُعتبرُ الأبَ الحقيقيَّ لأدبِ الأطفالِ في إنجلترا، حين أسّسَ أولَ مكتبةِ أطفالٍ في العالم، ثم شجّعَ الكتّابَ أن يؤلفوا كتباً تناسبُ الأطفال، وتراعي مراحلَ نموّهِمُ الذهنيِّ والعقلي. ومن القصصِ الشهيرةِ التي ألّفَها: “روبنسون كروز”، و “رحلات جيلفر”.
انتقالُها إلى الدول الغربيّة:
ومن ثَمَّ انتقلت هذه القصص إلى عددٍ من الدولِ الغربيّة، التي تنوعتْ مواضيعُها؛ فمنها من اعتمدَ الخرافةَ والأسطورةَ كألمانيا، ومنها من اعتمدَ الكتابةَ عن الجنّياتِ والأشباحِ كالدانمرك، ومنها من كتب قصصَ المغامراتِ والحيواناتِ كأمريكا، التي اشتُهِرتْ فيما بعد، بتعدّدِ المطابعِ ودورِ النشرِ المتخصصة للأطفال.
ظهورُها عند العرب
لا بدَّ هنا من الإشارةِ إلى تأخرِ ظهورُ الكتابةِ للطفلِ العربيِّ حتى القسمِ الأولِ من القرنِ العشرين، حين تمَّ تعريبُ الكثيرِ من المؤلفاتِ الأوروبيةِ والأمريكية، التي بدأت في مصرَ على يد رفاعة الطهطاوي. وأولُ من كتبَ للأطفالِ باللغةِ العربيةِ شعراً، وجاءت على ألسنةِ الحيواناتِ والطيور، هو أحمد شوقي، في قصّةِ “الثعلب والديك” ومن ثَمَّ بدأ اهتمامُ الدولِ العربيةِ الأخرى بالكتابةِ للطفل.
المحورُ الثاني: الاطّلاعُ على التغيراتِ التي أحدثَها التطوّرُ التكنولوجيُّ في الكتابةِ للطفل العربيّ، وإن كانتْ قد تمكّنتْ من اللِّحاق برَكبِهِ وانفتاحِه سلباً أو إيجاباً.
للأسف، أنا لا أمتلكُ اليوم شروحاً شافيةٌ لهذا المحور من الكتابةِ للطفلِ العربي، وكلُّ ما أستطيعُ تقديمَهُ اليوم، هو سؤالان جوهريان يجبُ علينا طرحَهما بقوة، ومحاولة إجراءِ البحوثِ اللازمةِ عليهما، والسعي لإنتاج كتاباتٍ إبداعيّة، تراعي خصوصيتَنا، كي نتمكنَ من الإجابةِ عنهما.
السؤال الأول:
هل وصلتِ الكتابةُ للطفل العربيِّ الناضجِ معلوماتياً وتكنولوجياً، إلى مرحلةِ النُّضوج؟
السؤال الثاني:
هل تبلورَ لدينا أساساً، أدبٌ حقيقيٌ للطفل، كي ندّعيَ أنه تقاعسَ أمامَ التقدّم، أو أنه قد تماشى أو لم يتماشَ مع رياح التطوّر؟
يجب أن نسعى معاً إلى تكثيفِ الجهودِ لإجابةِ هذين السؤالين، كي نتمكنَ من الانطلاقِ إلى فضاءاتِ التأليفِ الواسعةِ للطفلِ العربيّ، فهو حقٌ له علينا.
المحور الثالث:الكتابُ الورقيُّ بالتوازي معَ الكتاب الرقميّ، وشاشاتِ الكمبيوتر على اختلافها (آي باد – ماك بوك) وغيرهما.
هناك أصواتٌ عاليةٌ تنادي بالكتابِ الرقميِّ وتدعمُهُ بقوة، وتُطالبُ بالتخلي عن الكتابِ الورقيّ، وهذا أمرٌ مهمٌ وخطيرٌ جداً علينا إضاءَتُه، ونحنُ نتكلمُ عنِ الكتابةِ العصريةِ للطفلِ العربي، في موازاةِ الثورةِ التكنولوجية، وهو ضرورةُ مراعاةِ فئاتِ المجتمعِ المختلفة، التي لا تسمحُ لها ظروفُها البيئيةُ والماديةُ بالحصولِ على هذه الآلاتِ التكنولوجيةِ المتطورة، وذلك عن طريق:
أ- إنشاءِ مكتباتٍ عامةٍ في البيئاتِ الفقيرةِ والمعدَمة، في كلِّ أنحاءِ الوطنِ العربيّ.
ب- عدمِ المغالاةِ في أسعارِ كتبِ الأطفالِ من قِبلِ دورِ النشر، التي تعدُّ كلفةَ إنتاجِ
كتبِ الأطفالِ مكلفةٌ جداً.
الكتابةُ للطفلِ من خلالِ بُعدِها النظريّ:
الكتابةُ للطفلِ اليوم، ينبغي أن تحاكي الواقعَ والمستقبلَ والتطوّر، وتستقي بذكاءٍ من الماضي، وكلُّ ذلك من خلالِ تشريعِ أبوابِ التفكيرِ والتحليل، وتوسيعِ نطاقِ الإبداعِ والابتكارِ انطلاقا من:
أولاً: استعادةُ ثقة الطفل العربي بالكتاب، والكاتب العربي:
نظراً إلى أن معظمَ الكتبِ والقصصِ المكتوبةِ باللغةِ العربية، التي يرغبُ الأطفالُ بمطالعتِها وتداولِها فيما بينهم، هي كتبٌ معرّبةٌ عن لغاتٍ غربيّةٍ بعيدةٍ كلِّ البعدِ، عن ثقافتِنا وبيئتِنا وحضارتِنا، التي نودُّ أن يستقيَ منها أطفالُنا معلوماتِهم وخبراتِهم، علينا مراعاةُ الأمورِ التالية:
أ. اعتمادُ الكتّاب أسلوبَ المزاوجةِ بين الأصالةِ وبينَ التجديد، والإفادةُ مما تقدمُه لنا التكنولوجيا، وتسخيرُها لما فيه خيرُنا وتقدمُنا، وعدمُ محاولةِ تجاهلِها، مع ضرورةِ
إضاءةِ جوانبِها السلبية.
ب. اعتمادُ عنصريِّ الدهشةِ والإبهار.
ج. شحنُ القدرةِ التخيلية.
د. تحفيزُ القدرةِ التحليلية.
ه. إيقاظُ الطفولةِ داخلَ طفلِ العصرِ (الراشد).
و. التفاعلُ بينَ الكاتبِ وبين الطفلِ المتلقّي، وبناءُ جسورِ الثقةِ بينهما.
ز. إذكاءُ فضولِ الطفلِ المعرفي.
ح. عدمُ الاستهانةِ بمقدرةِ الطفلِ العقلية، أو محاولةِ التحايُلِ عليه، ومراعاةُ كونِهِ ناقداً لاذعاً بالفطرة، فالأطفالُ قادرون على إصدارِ الأحكامِ المطلقةِ والتعلّقِ بها.
ط. مراعاةُ عدمِ عرضِ “العضلات اللغوية” عن طريقِ استخدامِ التراكيبِ الصّعبة، التي تنفّرُ الطفلَ من اللغةِ العربيّة، لبُعدِها عن مدارِكِهم الذهنية. وهذه العضلاتُ اللغويةُ المفتولة، هي التي جعلتِ الأطفالَ والناشئةَ العرب، يُطلقونَ أحكامَهُمْ على اللغةِ العربية، وينعتونَها بالصعوبةِ والتعقيد، وبالتالي، فالنتيجةُ لذلك، هي عزوفُهم
عنها، وتبنّي اللغاتِ الأخرى، وتفضيلُها عليها.
ثانياً: التحدّي الحقيقي، الذي يواجِهُهُ الكاتبُ في ضوءِ الثورةِ التكنولوجية، وانتشارِ قنواتِ التواصلِ الاجتماعيِّ المغرية، هو منافستُها، وذلك من خلالِ جذبِ اهتمامِ الأطفالِ إلى ما يقدمُه إليهم من ناحيةِ أمورٍ أساسيةٍ هي:
أ- الموضوعات:
اختيارُ الموضوعاتِ التي تلامسُ حياةَ الطفلِ وحاضرَه، والتي تتماشى مع اهتماماتِهِ وواقعِه ومحيطِه، ومستواه الذهنيِّ والعقلي، وتلحقُ بعجلةِ التطورِ والتقدّمِ العلمي، والتغيرِ الاجتماعيِ في العالمِ الذي يدورُ من حولِه، وتؤثرُ فيه تأثيرا مباشراً، فالطفلُ، اليومَ، يختلفُ عن طفلِ الأمس، فهو يؤمنُ بالخوارقِ والعجائب، لذلك، يجبُ أن تختلفَ موضوعاتُ اليومِ عن موضوعاتِ الأمس.
وكلُّ ذلك في قوالبَ مغلّفةٍ بكثيرٍ من الخيالِ والتشويقِ والإثارة، والفائدة، وغيرِ المتوقّع، بعيداً عن المبالغةِ في تقديم المعلومات، وتوجيهِ النصحِ والإرشادِ المباشرِ والصارم.
ب- الشكل:
1- الاهتمامُ بالصورِ والرسوماتِ الجذابة.
2- الاعتناءُ بتصميمِ الصفحاتِ الداخلية، ومراعاةُ تناسقِ ألوانِها، ونوعُ الحرفِ المستخدمِ فيها.
3 – تحريكُ أواخرِ الكلمات.
ج- الأسلوب:
1- الاهتمامُ بالأسلوبِ الأدبي المستندِ إلى العاطفةِ والخيال، والذي يتسمُ بالقوةِ والتأثير، للاستيلاءِ على أحاسيسِ الطفلِ ومداركِهِ وانفعالاتِه، والذي يجعلُهُ في حالةِ ترقّبٍ لمساراتِ الأحداث، ومحاولةِ التنبّؤِ بمفاجآتِها وتتبُعِها.
2- اعتمادُ اللغةِ الأدبيةِ السهلةِ الفهمِ والاستيعاب، من ناحيةِ التراكيبِ والمفردات، بما يتناسبُ مع فئاتِ الأطفالِ العمريّة.
البعدُ التطبيقيُّ من خلالِ روايةِ “العربيزي والجدة وردة” في مزاوجةٍ مرنةٍ وَفْقَ ما وردَ في البعدِ النظريّ:
تبقى النظرياتُ والبحوثُ والدراساتُ والاستنتاجاتُ… كلاماً على ورق، إلى أن يتمَّ تنفيذُ نتائجِها، وما آلت إليهِ عن طريقِ الانتقالِ إلى مرحلةِ التطبيقِ العملي، ومن خلالِ تجربتي توصلت إلى أن التجربةَ هي التي تولّد النظرية وليس العكس، وهذا ما فعلتُهُ بصورةٍ ذاتية، كأديبة وروائيةٍ وناقدةٍ أدبية، حين عمدتُ إلى تأليفِ روايةٍ للناشئة، تلك الفئةِ التي تَصعبُ مخاطبتُها والوصولُ إليها في هذا العصر، وكانتْ هذه الروايةُ بعنوان: “العربيزي والجدة وردة”، التي تمَّ تقويمُها من قبلِ مؤسّسةِ الفكرِ العربي، كما تمَّ تحديدُ فئتِها العمريّةِ للمرحلةِ الإعدادية.
وهنا تجدرُ الإشارةُ إلى أنَّ الكاتبَ الحقيقي، هو الذي يستطيعُ أن يُحاكيَ بكتاباتِهِ كلَّ فئاتِ المجتمع، وقلمُهُ جوازُ سفرٍ مفتوحٍ في كلِّ الاتجاهات، فمن يملكْ مفاتيحَ اللغة، لا قيودَ تكبّلُه، ولا أطرَ تحدُّه ولا سدودَ تقفُ عائقاً أمامَ ينبوعِ أفكارِه!!
موضوع رواية العربيزي والجدة وردة:
العربيزي:
هي نحتٌ من كلمتين، “عربي إنجليزي”، إنّها اللغةُ العصريةُ الدخيلةُ على لغتِنا… “لغةُ الشات”، أي لغةُ المحادثاتِ السريعة، التي بدأتْ تحلُّ محلَّ اللغةِ العربيةِ وتمسخُها، وهي تعتمدُ على تحويلِ الحروفِ العربيةِ إلى حروفٍ انجليزيةٍ وأرقام؛ وعلى سبيلِ المثالِ لا الحصر: استبدالُ حرفِ العينِ بالرقم 3، وحرفِ الحاءِ بالرقم 7 وهكذا…
أما الجدة وردة:
فهي صورةُ الجدة، التي تمثلُ الفطرةَ والبساطةَ والطبيعةَ والتراثَ والزمنَ الجميل. وكما نلاحظُ هنا، فقد جمعَ العنوانُ بين الحديثِ المتطور، ممثلاً بما قدمَتهُ تكنولوجيا العصر، وبين القديمِ الجميلِ الذي ابتعدنا عنه وتناسيناه، ممثلاً بالجدة.
مضمونها:
عالجَتْ الرواية قضيةً خطيرةً جداً، هي قضيةُ اللغةِ العربية، والمخاطرُ التي تتهدّدُها، في مزاوجة سلسةٍ مع روحِ الحُلمُ وخصوبتِه، والتحليقِ في عالم الخيال، وكثيرٍ من التشويقِ والإثارة؛ في جمعٍ بينَ الأصالةِ والفطرةِ والطبيعةِ والبساطة، وبين المعاصرةِ وما تقدِّمُهُ التكنولوجيا. وتدورُ أحداثُها من خلالِ زيارةٍ تحطُّ رحالُها عبرَ صفحاتِ كتابِ جزيرةِ الحياة، الذي خرجت منه سارة، لتتعرَّف إلى عالمِ سامرَ الإلكترونيِّ المنفتحِ على العالمِ كلِّه، والمأسورِ أمامَ شاشةٍ ولوحةِ أزرارٍ من جهة، والتحليقِ مع الخيالِ إلى عالمٍ آخرَ في رحلةٍ تنطلقُ بسارة وسامر على متنِ الكتابِ نفسِه من جهة أخرى.
رسالتها:
لقد حملَتِ الروايةُ على لسان سامر، رسالةً حاسمةً موجَّهةً إلينا نحنُ الكبارَ، تقول:
“أيّها الكبارُ، أنتم قد تعوّدتُمْ سياسةَ ردّةِ الفعل، أمّا
نحنُ، أجيالَ المستقبل، فسنُعَلّمُكُم سياسَةَ الفِعل، وسنصنعُ التغيير!!
نحن أملُ الغدِ ومستقبلُهُ الواعد… والأرضُ الخِصْبةُ المهيَّأَةُ لاستقبالِ ما تبذرونَهُ فينا… فمَا نقدمونَهُ لنا هو مسؤوليّتُكم، وما تورثونَنا إيّاهُ سيكونُ بمثابة خريطةَ طريقٍ نسيرُ عليها، فلتكُنْ بذورُكم طيّبة… كي تنبتَ في أرضٍ طيّبة”
إضاءآتها:
لقد أضاءَت الروايةُ جانباً مظلماً من واقعِ اللغةِ العربيةِ اليوم، وهو أنّ الجيلَ الجديدَ ليس قريباً من اللغةِ العربية، لأنه اقتنعَ بأنَّها صعبةٌ ومعقدةٌ وجافة وغامضة، وهذا ناتجٌ، ربّما، عن صعوبةِ التراكيبِ والمفرداتِ المستخدمةِ في الكتاباتِ للطفل، بالإضافةِ إلى شيوعِ بعضِ الأفكار الخاطئةِ وتبنّيها؛ فهناك من يخجلُ من التواصلِ باللغةِ العربية، على اعتبار أنّها وجهٌ من وجوهِ البدائيةِ والتخلّف، حين صدّقوا أن إتقانَ اللغاتِ الأجنبيةِ والتحاورُ بها، هو وجهٌ من وجوهِ الحضارةِ والتطوّرِ والرقي؟!
تنبيهاتها:
تؤكدُ الروايةُ أنَّ ثورةَ التكنولوجيا قد حوّلتِ العالمَ إلى قريةٍ صغيرة، ولكنَّها دون شعورٍ منا، فرَّقتْ بين أفرادِ البيتِ الواحد، وأسرَتنا بإرادتِنا بين جدرانٍ مغلقة، وأمامَ شاشاتٍ صغيرة، كما تشيرُ إلى أن التوغّل في ذلك العالمِ الافتراضيِّ وأدواتِهِ وآلاتِه، قد حوّلَ عواطفَنا إلى شيءٍ يُشبهُ الأزرار، ففقدْنا لغةَ الحوار، والتواصلِ الاجتماعيّ، وبذلِ أيِّ مجهودٍ جسديّ.
في قلب الرواية رواية:
سنجدُ أنّ في قلبِ الروايةِ روايةً ترويها الجدةُ وردة، تُعيدُ من خلالِها إلى ذهنِ الطفلِ حكاياتِ ألفِ ليلةٍ وليلة، التي تجعل من المعجزاتِ والخوارقِ شيئاً ممكناً، والمليئةُ في الوقت نفسِه بالسحرِ والأحلام، ولكنَّها تحملُ في مضمونِها رسالةً نقديةً عميقةً مغلفةً بقصّةِ حُبٍّ أسطورية، سوف يفهمُ الطفلُ من خلالِها ما يحصلُ في العالمِ العربيِّ من ثورات، وأن الحلولَ ليستْ صعبةً حينَ يقومُ كلٌّ منَ المسؤولِ والمواطنِ بواجبِه، إذ تمنحُهم شعوراً بأنّ أصحابَ الإراداتِ قادرون على إحداثِ التغيير.
جولةٌ موجزةٌ في الرواية:
يتركُ سامر، الذي يشتكي من صعوبةِ اللغةِ العربية، عالمَهُ الذي يضجُّ بالفوضى والدخانِ والأسوارِ العاليةِ والإلكترونيات، ليرافقَ سارة عبْرَ كتاب جزيرةِ الحياة، إلى موطنِها في جزيرةِ الحياة، التي لم تعرفِ التكنولوجيا ولا الإنترنت، فيتعرفُ فيها إلى عالمٍ آخرَ غيرِ عالمِه، وألعابٍ غيرِ ألعابِه، وحديقةٍ تتطايرُ في أنحائِها حروفُ اللغةِ العربيةِ بفرحٍ وفخر، وكأنها فراشاتٌ ربيعيةٌ انتشرتْ بزهوٍ؛ وجدّةٌ يتحلّقُ حولَها أولادُ الجزيرةِ كلَّ مساءٍ لسماعِ حكايتِها المشوِّقة، التي تحملُهم إلى عالَمِ الخيالِ وتعلمُهم العِبرَ… كلُّ هذه الأحداث تدورُ في قالَبٍ من الدهشةِ والإبهارِ والمفاجآت، ولكن ما لم يكن في الحُسبان، هو الخللُ الذي أصابَ حديقةَ اللغةَ وحروفَها… يدٌ خفيّةٌ وذبذباتٌ خبيثةٌ كالصّواعق، بدّلت بعضَ حروفِ اللغةِ العربية، بأرقامٍ تُشبهُها، إمّا بالشكلِ وإمّا باللفظ؛ ومع تبدلِ الحروفِ في الحديقة، تتبدلُ أجواءُ الهدوءِ والأُلفة، التي كانت تسودُ الجزيرة، وتعلو وتيرةُ الحبكة، ويبدأ الصراع. وهنا تتدخلُ الجدةُ وردة، في محاولةٍ منها لحلِّ ذلك اللغزِ المخيف، وتصلُ بعد ذلك إلى حقيقةٍ مفادُها، أنّهم في جزيرتِهم لا يستطيعون أن يعزلوا أنفسَهم وأولادهم، عن ما يحصلُ في العالم من تقدمٍ وتطوّر، وأنَّ عليهم أن يواجهوا مسؤولياتِهم، أمامَ ضرورةِ الموازاةِ بين كلِّ ما نملكُهُ من أصالة، وبين ما تقدِّمُه لنا التقنياتُ الحديثة.
وصلتْ تكنولوجيا الإنترنت بمساعدةِ سامر، وفضولِ سارة، من خلالِ اقتحامِها عالمَهُ إلى جزيرةِ الحياةِ وأهلِها، ولكن في أحضانِ الطبيعةِ وليس بينَ الجدران.
تتتبعُ الرواية تطوُّرَ الشخصياتِ والتغيراتِ التي تطرأ عليها، جرّاءَ الأحداثِ والمفاجآت، وفي نهايةِ الروايةُ، يتحولُ سامرُ بمساعدةِ سارة، والجدةِ وردة، وجزيرةِ الحياةِ وأهلِها، من كارهٍ للغةِ العربية، إلى متكلمٍ باسمِها وحاملِ لوائِها، بمساعدةِ قنواتِ التواصلِ الاجتماعيّ، فأصبحَ لحملةِ “بالعربي” صفحةٌ شيّقةٌ على “الفيسبوك” جمعتِ الملايين، وسارَت على خُطاها كلُّ الدولِ الناطقةِ باللغةِ العربية!!
تقنيات روايةِ “العربيزي والجدةِ وردة”:
حوتِ الروايةُ عدداً من التقنياتِ الحديثة من حيث الشكل والأسلوب، التي تُعدُّ امتيازاتٍ مهمةً في الروايةِ العصرية، التي تخاطبُ جيلَ الفتيانِ والناشئة، ومنها:
أ- غلافٌ لافتُ النّظر، قد يثيرُ الكثيرَ من التساؤلاتِ والتكهنات، بالإضافةِ إلى الرسوماتِ الملونةِ بألوانٍ زاهيةٍ بهيّةٍ فرحة، التي من شأنها أن تحلّق بذهنِ الطفلِ وخيالِهِ إلى عوالمَ جديدة تفتح له أفقَ التحليل والنقد والاستنتاج، والملاحظةِ والتأمل، وتمنحُه مساحةً من حريةِ الموافقةِ أو الرفض، وفي الوقتِ نفسِه تحفزُ شهيتَه للقراءة، لأنَّ معظمَ الرواياتِ الموجّهةِ لهذه الفئةِ العمرية، لا تحوي الصورَ، على اعتبارِ أنهم ناضجون.
ب- عناوين للأقسامِ ملوّنةٌ وجذابة، وهذه من شأنِها أن تجعلَ الطفلَ يفكر، ويحاولُ توقُّعَ ما يمكنُ أن يتحدثَ عنه القسمُ الآتي.
ج- اختلافُ شكلِ الخطوطِ ولونِها، فيما يتعلقُ بالسّردِ والحوارِ وحكايةِ الجدةِ وردة، كي لا يشعرَ الطفلُ بالمللِ أثناءَ القراءة، ويتشجّعُ للمتابعة.
د- كلماتُ الروايةِ محرَّكةٌ تحريكاً كاملاً، من أجلِ قراءةٍ صحيحةٍ سليمة، كي يتسنّى للطفلِ قراءتَها قراءةً صحيحة، بالإضافةِ إلى تحريكِ الكلمات، التي قد تتشابهُ على الطفلِ في المعنى، تحريكا كاملاً، كي يتمكنَ من التفريقِ بينها. (هناك تفكيرٌ خاطئٌ يشيرُ إلى أن تحريكَ أواخرِ الكلماتِ في كتبِ الأطفال، من شأنِهِ أن يحدَّ من قدراتِ الطفلِ على استخدامِ قواعدِ اللغةِ العربيةِ بصورةٍ صحيحة، ولكن التجاربَ أثبتتْ أن الطفل، إن تعوّدَ سماعَ نفسِهِ يقرأُ بصورةٍ صحيحة، فسوفَ تنمو فطرتُهُ على القراءةِ الصحيحة، فالقرآنُ الكريم، لو لم يكن محرَّكاً، لتعسّرَ فَهْمُهُ واستيعابُه)
ه- تعدّدُ شخصياتِ الرواية، الذي وصلَ إلى أكثرَ من ثماني عشرة شخصية، من رئيسيةٍ وثانوية، لإضفاءِ روحِ المشاركة، وتمكينِ الطفلِ من أيجادِ من يشبُههُ بينها، فيحيا مشاعرَها وتقلباتَها، وأفراحَها وأحزانَها، بالإضافةِ إلى التركيزِ على إظهارِ مراحلِ تطورِها. وكذلك للدلالةِ على رفض الاستئثار، الذي تعودْنا عليه في عالمِنا العربي في كلِّ شيء، لذلك آثرتُ التفلّتِ من محيطِ البطلِ الواحد، لأنَّ التعدّدَ له مدلولاتٌ كبيرة، لتأكيدِ أنّ الشخصيةَ الرئيسية، مهما كانت فعّالةً في العمل الأدبي، كما في الحياةِ العامةِ تماماً، لن تنجح بدونِ الشخصيةِ الثانوية، ولا تكتمل بدونِها.
و- اعتمادُ الحوارِ بينَ شخوصِ الروايةِ لمنح الروايةِ حيويةً وحركة، لتجنيبِ الطفلِ السَّأمَ والرتابة، اللذين يمكنُ أن يتسببَ بهما السردُ الطويل، وكي تضفِيَ على النصِّ المتعةَ والحيوية، وتُشعِرَ الطفلَ بأنّهُ مُشاركٌ رئيسيٌّ في أحداثِ العمل، وذلك من خلالِ التعرّفِ إلى الآخرِ المختلف، ومنحُه حرية تأييدهِ أو مخالفتِه، وهنا تظهرُ مقدرتُه على التمييز، وتنمّي لديه ملكةَ النقد، وتُشجِعُه على تحمّلِ مسؤولياتِه في قراراتِه. وقد تفتحُ المجالَ لإمكانية تحويلها إلى عملٍ مسرحيّ أو درامي.
ز- اللغةُ الوصفية، حينَ تتحوّلُ الكلماتُ في عقلِ الطفل، إلى صورٍ حيّةٍ تتحركُ وتنبض وتشعر، وكأنه يشاهدُ فيلماُ سينمائياً، مع الحرصِ على استخدامِ الجملِ القصيرةِ لقلّةِ صبرِ الأطفال.
ح- استثمارٌ تربويٌّ حيوي على الطريقةِ التعليميةِ الحديثةِ في نهايةِ الرواية، لتحفيزِ ذهنِ الطفلِ إلى التعمّقِ في مضمونِ العملِ ورسالتِه، بالإضافةِ إلى تبيُنِ جمالَ اللغةِ فيه.
ط- قُرصٌ مدمّجٌ بصوتِي أنا الكاتبة، أقرأُ فيه الروايةَ كاملةً بطريقةٍ معبرة، مراعيةً الحركاتِ ومخارجِ الحروف، كي يتمكنَ الطفلُ من سماعِها وقراءتِها معاً، فيستقيمُ له فهمُها واستيعابُها وتتبُعُها، فتؤمّنُ له المِتعةَ والفائدة.
وبعد هذا العرض أودّ تأكيد ما ذكرته سابقاً: “أن التجربةَ هنا هي التي ولّدت النظرية وليس العكس”
وبعملية حسابية بسيطة أستطيع القول أن:
الفكرة + التجربة = النظرية
توصيات هذه الورقة
أ- على الجهاتِ الحكوميةِ وشبهِ الحكوميةِ الراعيةِ للثقافة، أن تفتحَ أمامَ الكتّابِ العربِ القنواتِ والسبلَ، التي من شأنِها أن تسهّلَ نشرَ أعمالِهم وترويجِها بشكليها الورقيِّ والرقمي، بالتعاونِ مع دورِ النشر، وذلك لسدِّ فجواتِ المحتوى المعرفيّ العربي.
ب- هناك حاجةٌ ماسّةٌ إلى إجراءِ دراسةٍ مكثفة، لحصرِ الإنتاجِ المعرفيّ للأطفالِ من خلالِ دورِ النشر، وفقاً للتصنيف الموضوعيّ والعمريّ لمؤسسةِ الفكر العربي، وذلك للتعرفِ إلى الفجواتِ الموضوعيّةِ في المحتوى المعرفيِّ للأطفال.
ج- إعدادُ البرامجِ التي من شأنِها سدُّ الفجَواتِ الموضوعيةِ والبنائيةِ في المحتوى المعرفيّ للأطفال، عن طريقِ إقامةِ المسابقاتِ لكتّابِ الأطفال، في الموضوعاتِ التي يثبتُ النقصُ فيها، والتي من شأنِها إثراءُ الإنتاجِ المعرفيِّ عند الأطفالِ في الوطنِ العربي.
د. تأمينُ شراكةٍ حقيقيةٍ وفاعلةٍ بين المؤسساتِ الثقافيةِ في العالم العربي، لتجاوزِ بعضِ التبايناتِ الثقافية، وخصوصاً الفروقاتِ الماديةَ السائدةِ في الوطنِ العربي، كي يتمكنَ الكاتبُ المبدع، ذو الإمكانياتِ الفكريةِ المرتفعة، والإمكانياتِ الماديةِ المحدودة، من تقديمِ فكرِه، وإيصالِهِ عبرَ تلكَ المؤسسات، لتنشيطِ الحركةِ الثقافيةِ للأطفال.
ه. تأمينُ الإمكانات اللازمة، كي يتمَ تحويلُ بعض الكتابات الناجحة للطفل في مختلفِ مراحلِهِ العمريةِ إلى أعمالٍ مسرحيةٍ جذابة، وعرضُها على مسارحِ المدارسِ، والمسارحِ الثقافية، أو تحويلُها إلى أعمالٍ درامية، فربما تستطيعُ أن تنافسَ المسلسلات التركية المدبلجة التي تجتاحُ بيوتَنا، وتحتلُّ مقاماً رفيعاً في عقولِ أولادنا.
وأخيراً…
ونتيجةً لكلِّ الأفكارِ التي أوردَتْها هذه الدراسةُ، كلّي أملٌ ككاتبة، أن نصلَ جميعاً إلى نتيجةٍ مفادُها: أن نجاحَ هذا النموذجِ من الرواية، ربَّما يكونُ خريطةَ طريق، أو نهجاً وأنموذجاً للكتابةِ العصريةِ للطفلِ العربي؟!
وقبل أن أختم أودّ استخدام عبارات أطلقها بعض التلامذة بعد قراءتهم للرواية:
“بالعربي بالعربي … وبالعربي مكملين”
“معاً لحملة بالعربي… وبالعربي نفتخر”
منى الشّرافي تيّم
دراسه رائعه و مبتكره جديره لتكون منهج للدارسين الى الآمام دائما دكتوره منى الشرافى\\\ممدوح خطاب
الدراسه مميزه جدا وتطرح كثير من النقاط المهمه في ادب الاطفال هذا الادب الذي يعاني من اهمال ربما غير متعمد من قبل وزارات الثقافه العربيه والقائمون على منهاج التربيه والتعليم وهذا ربما يكون منشأه ضعف سوق الكتاب العربي بسبب قله القراء والاقبال على اقتناء الكتب علاوه على نوعيه التعليم التي تركز على الشهادات الاكاديميه من باب الارستقراطيه فقط وليس من باب الفكر.
حقيقه وبلا ادنى شك الدراسه كشفت عن جوانب مهمه في عالم الاطفال وهو ان مرحله الطفوله المبكره والمتاخره هي الارض الخصيه التي نستطيع فيها زراعه القيم الاصيله في سلوك الطفل مثل الصدق والاخلاص والمحبه واحترام الاخر ولكي نوصل له هذه القيم المجرده نحتاج الى ادب الاطفال كوسيله للعبور الى عوالم الطفوله عن طريق سرد قصص عابره قد تبدو للوهله الاولى؛ لكنها تكون دسمه بحليب الفكر الطازج كي يخرج الطفل الى مرحله المراهقه بضمير ابيض ناصع . مثلا قصص روبنسون كروز والتي تم عرضها في مسلسلات الرسوم المتحركه هي خير مثال على ذلك لانها تعزز قيمه التعاون الاسري ومواجهه الصعاب . رحلات اوليفر ايضا تنمي ثقافه الطفل وهي خليط من ادب الرحلات وكذلك مغامرات السندباد مثلا .
ما اود ان اقوله ان ادب الطفل هو الاداه الفكريه التي تنقش في مخيله الطفل الكثير من الانطباعات الايجابيه والتي حتما سوف تساعده كي يكون فردا منتجا في المجتمع لان الامم لا ترقى الا بعقول شبابها وليس بثرواتها والعنصر البشري هو عمود التطور وهذا يحتم الاهتمام باطفال اليوم لانهم شباب المستقبل .
اما عن الاليات المستخدمه في التعامل مع عقليه الطفل من حيث صياغه القصص باسلوب شيق وممتع واستخدام الرسومات والالوان وعرض الافكار بطريق سلسه سهله كل هذه الاليات والتقنيات تعود الى ذكاء الكاتب الذي يكتب للناشئه بحيث يركز على بناء جسور الثقه بينه وبين القارئ الطفل .
بحق هذه الدراسه كشفت الاضواء على كثير النصائح والارشادات والمهارات التي يجب ان يتمتع بها المختصون في ادب الطفل .