الوطن كلمة ترددت على مسامعنا منذ كنا أطفالاً، ورضعنا محبته من أثداء أمهاتنا، وتسرّب معنى الانتماء إليه ببطء إلى كياننا حتى قبل أن ندرك أبسط معاني الحياة، فورِثنا حبه وورّثناه. وفي مدارسنا ببراءة الطفولة أنشدناه، وبفخر الصبا رفعنا رايته، ومعه ارتفعت رؤوسنا عالياً، وحين كبرنا أدركنا أنه الهويّة، التي تلازم أسماءنا وتقرر لنا من نحن ومن نكون، كما تعلمنا أن أرواحنا له فداء، وترخص لترابه أزكى الدماء، لأنه رمز الكرامة والشرف والعزة والبقاء.
نعم هو الوطن…! الذي عجزت عند عتباته الكلمات والعبر، على الرغم من كل القصائد التي نُظمت لأجله… هو الوطن الذي نزفت له المحابر والأقلام، على الرغم من المعلّقات والخطب، التي هتفت باسمه واستبسلت كلماتها في الدفاع عنه. هو الوطن، حضن الأم الآمن الدافئ الحنون… ولكن من هي الأم الحقيقية؟ أهي الأم التي تحمل وتلد؟ أم هي الأم التي تربي وتسهر وتعتني وتكبّر؟ وما هو الوطن؟ هل نعرّف الوطن بجغرافيته، حدوداً وتراباً وسهولاً وجبالاً وبحاراً وأنهارا؟ أم نعرّفه بأهله وناسه وساكنيه وقاطنيه وساسته وسياساته وأنظمته؟ أسئلة كثيرة معقدة تتزاحم في أذهاننا حين نفكر بالوطن الأم! والأكثر تعقيدا هو البحث لها عن أجوبة؟!
غالباً ما نتكلم عن الغربة ونشتكي قسوتها! فما هي الغربة ومتى وأين تكون؟ أهي مغادرة الوطن الأم إلى وطن آخر غربي غريب؟ هل هي الابتعاد عن الأهل والأقارب والأصدقاء والأحبة؟ نعم! قد تكون الغربة كل ذلك وأكثر، ولكن لم علينا أن نتغرّب عن حضنك، ونبتعد عن ترابك أيها الوطن؟ أهي الرغبة بالشتات والسفر إلى بلاد الله الواسعة؟ أم هي وطن ضاقت أراضيه بشبابه، ولم تعد سماؤه تسع أحلامهم وطموحاتهم وأمانيهم؟ أم أن هناك أياد ضيّقته، ففصّلته على مقاسها، وسلبت منه خيراته وأرادته لنفسها فقط، مستعينة بكل يد مستبدة طاغية، قادرة على تلبية أطماعها وتحقيق أبعد طموحاتها، حتى لو كان المقابل تنازلاً عظيماً، يؤسس لإعادة رسم الخرائط، وخلط الحدود، واستباحة الوطن؟ والناس في كل هذا مجرد دمىً ساكنة! ومقابل كل ما يحدث، ماذا يفعل الشاب الذي إن تعلّم لا يجد وظيفة، وإن كان محظوظاً ووجد الوظيفة، فلن تكفيه قوت يومه، وستقتل أحلامه قبل أن يحلم بها. وهنا يجد نفسه في مواجهة مع خياراته، إن قُدِّر له الخيار… فإما أن يرضى بالنصيب ويقبل بتصنيف – تحت خط الفقر- أو يبحث عن مخرج ومنفذ ينقذه من الانحراف أو الانتحار، فيهاجر بحثاً عن المستقبل وتأمين الذات، سواء بالعمل أو الدراسة، أو الاثنين معاً. وهنا لا بد من الإشارة أن أعدادا كبيرة من أبناء الوطن، الذين يملكون المواهب العظيمة، والعقول المفكرة المبدعة، يتغربون للدراسة في الخارج، وذلك لأن جامعاتهم ومؤسساتهم التعليمية في أوطانهم لم تصل أو ترقى إلى حدود آفاقهم وتطلعاتهم، كي تؤمن لهم الدراسات التي تتناسب مع اهتماماتهم وطموحاتهم وقدراتهم… شباب لو سنحت لهم الفرصة لصنعوا لأوطانهم المجد ولأحدثوا التغيير. والعدد الأكبر من أبناء تلك الأوطان الذين هاجروا إلى تلك الغربة قد أصبحوا علماء كبارا، أو احتلوا بمجهودهم ومثابرتهم مراكز مرموقة لم يكن ليحلموا بها في أوطانهم، فمنحتهم غربتهم كل امتيازاتها وهويتها بالإضافة إلى جواز سفر!! على أساس واحد فقط هو أن التفاضل في أوطان الغربة لا يقرره إلا الجهد والعمل، والفرد كقيمة مستقلة، وليس عوامل المال والجاه والإرث الأسري، التي تمنح الفرد في أوطاننا امتيازات لا يستحقها.
والمثير للشفقة والغرابة في الوقت نفسه، أن ذلك الفرد الذي نجح وتميّز في الغربة، إن حدث وقرر العودة للعمل في وطنه، وتقدم لأي وظيفة بهويته الوطنية، فسيكون مركزه وراتبه الشهري أدنى وأقل بكثير، فيما إذا لو تقدم للوظيفة بجواز سفره الممنوح له من وطن الغربة؟!
ومن كل ما تقدم يختلط علينا معنى الوطن، ومفهوم الغربة، ولمن يكون الانتماء الحقيقي؟ وكيف نجيب نحن من تغرّبنا عن أوطاننا، حين نقف أمام ذاك السؤال: “غربة في وطن؟ أم وطن في غربة؟” أيهما أقسى على الإنسان؟! ومن هنا يمكننا أن نتكهن الإجابة على أحد تلك الأسئلة المعقدة التي أطلقتها في بداية هذا المقال، وهو أن الوطن الأم، كما الأم البيولوجية التي حملت وولدت، ثم سلمت وليدها كي يربيه غيرها، حتى لو ذرفت على فراقه الدموع ومهما كانت ذرائعها. والغربة على قسوتها وبرودتها هي الأم التي ربت وعلّمت وكبّرت!!!
منى الشرافي تيم
رائعه استاذه
اقسى انواع الغربة هي ان تشعر انك غريب في وطنك وبين اهلك . يا الله ما افظع وابشع هذا الشعور