شعرت ندين في تلك الهنيهة, بأنها قد حققت نصراً ساحقاً حين نفّذت لها ديانا رغبتها من دون أي اعتراض, إلا أن إحساسها بالنصر لم يدم طويلاً, وتلاشى حين طلبت ديانا من سهير أن تسمح لحسن بالدخول على الفور.
بهت لون ندين وجفلت عيناها, ثم انتصبت على قدميها وسألت بلهجة متلعثمة:
– وماذا يفعل حسن هنا يا ديانا في هذا الوقت؟
– حسن يودُّ مواجهتك, فهو يجزم أنك دمرت حياته العاطفية والزوجيّة؟
استقبلت ديانا حسن وعرّفته إلى فاضل, فتصاعد الغضب من رأس ندين, التي تمنت لو تنشقّ الأرض وتبتلع حسن وديانا إلى الأبد!
تقدّم حسن من ندين ومدّ لها يده للمصافحة, فعادت إلى الوراء واتكأت على الجدار, ثم حدجها بنظرة اشمئزاز سرت في شرايينها, فارتجف جسدها, ثم اقترب منها إلى درجة أشعرتها بأنفاسه الحارّة على وجهها, التي ينفث من خلالها سموم بغضه لها. فانسحبت, وقلبها يدق طبوله وبصوت مخنوق وخافت, فرجت فاضل أن ينفّذ رغبة ديانا بمغادرته العيادة شرط أن يعود بعد ساعة, فهي لا تريد من فاضل أن يتعرّف إلى جانب آخر من وجهها القبيح.
بعد أن رحل فاضل, عادت ندين إلى شخصيتها الوقحة, فقالت لحسن:
– ما الذي تريده مني؟ اذهب إلى زوجتك وولديك فهما بحاجة إلى رعايتك, لماذا تلاحقني؟ فقد رأت ديانا بأمّ عينيها تحرّشك بي!
ضحك حسن ضحكة اهتزّت لوقعها الساخر أرض العيادة وفضاؤها, ثم صمت فجأة, بعد أن احمرّت أذناه وتحولت عيناه إلى جمرتي نار ملتهبتين وقال:
– نعم ما رأته ديانا لا يشكّل واحداً في المائة مما تعرفه, فقد أخبرتها بالتفاصيل الدقيقة والفاضحة والمخزية التي حصلت بيننا!
كان الموقف صعباً لا يُشرح ولا يُفسّر, ولكن بهذه المواجهة قطعت ديانا مسافة شاسعة على راحلة علاجهما معاً, فوقفت ندين, والدموع تتقطّر من عينيها, وكأنها سلّمت أسلحتها وتوقفت سبل مقاومتها, فتوجّهت إلى الأريكة الحمراء وتمدّدت عليها… وديانا تراقبها عن كثب, وسط استغراب حسن الذي لم يعهد ذلك الجانب الضعيف من ندين, ثم بدأت بالكلام ولأول مرة منذ وقوع حادثة اغتصابها, التي دمّرت كيانها وحرمتها حلمها بالأمومة, فقد كانت قبل تلك الجريمة, فتاة حالمة تعشق ولادة الفجر من قلب الأفق, وتستمتع باستنشاق نسيم الصباح على الرغم من رائحة بارود الحرب الأهلية اللبنانيّة, التي كانَ لها أثرٌ تدميريٌّ في مستقبلِ أبنائِه، ولا يزالُ المجتمعُ يُعاني من جوانبها المأساويّة وويلاتِهِا إلى يومِنا هذا, فقد شَتَّتَتْ ويَتَّمَتْ وأَرْمَلَتْ, واستباحت أعراض البنات وقلبت نهارهن إلى ليل ظلامه دامس… قمره الشؤم ونجومه أشواك صدئة تنغرس في أنامل قلوبهن, فطال شتاؤهن, وخيّم على أجوائهنّ هدوء جليدي أجوف حائر ومتردد.
صمتت ندين لحظات بشقّ النَفْسِ والنَفَس, وجالت بنظرها الحزين المتألم بين عيني ديانا وبين عيني حسن, ثم قصّت عليهما كيف تناوب على استباحة جسدها البض, رجال تفوح من أفواههم روائح التبغ والكحول, وتفوح من أجسادهم روائح عفنة كريهة بطعم الموت والدمار والبارود والنار. فوصفت لهما تلك الأيام الرهيبة التي قضتها في جحر الجرذان القاتم, التي تمنّت فيها أن ينسلخ جلدها, وتفقد ذاكرتها, وتتلاشى كرماد النار بعد عاصفة هوجاء… تمنت الموت وعشقت فكرته, ولكن القدر الذي اختار لها هذا الطريق, لم يمنحها إلا البقاء في حضن الموت… في حضن القهر والغضب, خصوصاً بعد استئصال منبع الحياة من جسدها, فحوّلها إلى صحراء قاحلة, لا ينبت في داخلها إلا شجر العلقم, فماتت مشاعرها, وصمت قلبها, وتمنت الألم والتعاسة لكل من حولها, وخصوصاً أقرب الناس إليها, فرسمت في مخيلتها صور دمارهم وشقائهم وتعاستهم وأكثر من ذلك, بينما هي تقف وتتفرج عليهم وتضحك بملء حقدها وسوداوية ضميرها.
أما الرجال من حولها, فقد كانت ندين تتخيّلهم حيوانات برّية, يحركهم عقلهم الذي ينتصب بين أقدامهم عند رؤية أنثى, فيسهل عندئذٍ ترويضهم وتشكيلهم كما تشاء, وحين يدمنونها تلفظهم وتهدم عروشهم الوهمية, وكأنهم لم يكونوا, وبهذا الشكل تكون قد انتقمت منهم ومن فحولتهم, التي لا يتباهون إلا بها, ومن ثم يتحولون في نظر أنفسهم المريضة إلى ضحايا مكر حواء, متذرعين بإلقاء اللوم على المرأة اللعوب, التي أغوتهم وأوقعتهم في الخطيئة, فالزنا والعهر والانفلات الاجتماعي لا يرتبط إلا بعري المرأة وتكشّفها, الذي يجر وباله على الرجل المسكين, ويدفعه إلى ارتكاب الخطايا والمعاصي. هو يحق له الزواج مثنى وثلاث ورباع من غير مسوّغ, أو حتى الزواج من فتاة لم تتجاور العاشرة من عمرها, ويحلل لنفسه زواج المتعة والمسيار والمصطاف والعديد من المسمّيات التي تسمح له بإباحة فعل الزنا وتحليله. وكل هذا من حقه, فهو رجل مقهور!! تماماً كحال حسن الذي تحوّل إلى ضحيّة من ضحاياها, فهو مسكين بلا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم.
جفلت ديانا لسماع منطق أختها, ومأساتها مرويّة على لسانها, فهي أقسى بكثير مما تصوّرته أو سمعت به من والدها والناس, ثم شعرت بأوصالها تتقطع على أختها المسكينة, التي قلّبت صفحات ذاتها وألمها, ولم تفترِ على الزمان الشنيع, الذي لم ترَ منه إلا جانبه الوضيع المأساوي المظلم, وأيضاً لم تجد فيه من يساندها أو يقف إلى جانبها ويقوّيها, بل وقفت في مواجهة رياح المجتمع العتيّة, وتحمّلت صفعاته حين تناسوا أنها هي المجني عليها, وبدل أن يستردّوا لها حقها المهدور, ويحاسبوا الجناة على ما اقترفوه, دفنوا رؤوسهم في وُحول التقهقر والانهزاميّة والذل والعجز عن اتخاذ موقف, وتعاملوا معها على أساس أنها هي الجاني. ولاكت سمعتها ألسنة النساء اللواتي يدعين العفة وهن (…), وطمع في جسدها المفضوضة بكارته قضبان الرجال.
-
أحدث التدوينات
My Twitter
- https://t.co/ghEow3IYDQحوالي 5 days ago
- أمّي.. ثم أمّي.. ثم أمّي.. monaalshrafi.com/2023/03/21/%d8… via @MonaTayim لأن الأم في حياتها كبيرة جداً، ولكنها حين تغيب تصبح أكبر!!حوالي 6 days ago
- أمّي.. ثم أمّي.. ثم أمّي.. monaalshrafi.com/2023/03/21/%d8…حوالي 6 days ago
- https://t.co/2f9JcoqTkiحوالي 1 week ago
- ثقافي / معرض الشرقية للكتاب 2023 يُنظم مؤتمر الطفل الأول spa.gov.sa/2432850 التغطية الصحفية لمؤتمر الطفل… twitter.com/i/web/status/1…حوالي 2 weeks ago
الأرشيف
- مارس 2023
- فيفري 2023
- نوفمبر 2022
- مارس 2020
- جانفي 2020
- نوفمبر 2019
- جويلية 2019
- أفريل 2019
- مارس 2019
- جانفي 2019
- ديسمبر 2018
- نوفمبر 2018
- أكتوبر 2018
- سبتمبر 2018
- جويلية 2018
- جوان 2018
- ماي 2018
- مارس 2018
- جانفي 2018
- ديسمبر 2017
- نوفمبر 2017
- سبتمبر 2017
- أوت 2017
- جويلية 2017
- جوان 2017
- ماي 2017
- أفريل 2017
- مارس 2017
- فيفري 2017
- جانفي 2017
- ديسمبر 2016
- نوفمبر 2016
- أكتوبر 2016
- سبتمبر 2016
- ماي 2016
- مارس 2016
- جانفي 2016
- ديسمبر 2015
- نوفمبر 2015
- أكتوبر 2015
- سبتمبر 2015
- أوت 2015
- جويلية 2015
- جوان 2015
- ماي 2015
- أفريل 2015
- مارس 2015
- فيفري 2015
- جانفي 2015
- ديسمبر 2014
- نوفمبر 2014
- أكتوبر 2014
- سبتمبر 2014
- أوت 2014
- جويلية 2014
- جوان 2014
- ماي 2014
- مارس 2014
- فيفري 2014
- جانفي 2014
- ديسمبر 2013
- نوفمبر 2013
- أكتوبر 2013
- سبتمبر 2013
- أوت 2013
- جويلية 2013
- جوان 2013
- ماي 2013
- أفريل 2013
- مارس 2013
- فيفري 2013
- جانفي 2013
- ديسمبر 2012
- نوفمبر 2012
- أكتوبر 2012
- سبتمبر 2012
- أوت 2012
- جويلية 2012
- جوان 2012
- ماي 2012
- أفريل 2012
التصنيفات
منوعات
-
انضم مع 31٬828 مشترك